اللمسة الأخيرة!!

TT

كانت لعبد الحليم حافظ، الذي احتفلنا بذكراه السادسة والثلاثين قبل يومين، أغان خاصة قدمها في عدد من المناسبات، ولم يكن يسعى لنشرها في حياته، لكن الورثة وعددا من أصدقائه كانوا في كل ذكرى يسمحون بنشر واحدة منها. كثيرا ما نقرأ هذه الأيام عن أعمال فنية عثر عليها الورثة، مثلا أعلن أبناء الموسيقار الراحل محمد الموجي أنهم وجدوا ألحانا نادرة له سوف يقدمونها للجمهور في ذكرى رحيله الثامنة عشرة التي تحل في شهر يونيو (حزيران) المقبل، وتكرر ذلك مع العديد من الكُتاب والشعراء حيث إن الناس عادة يبحثون عن الجديد الذي لم يقدمه المبدع في حياته.

ولكن يبقى السؤال الشائك: بعد رحيل المبدع، من يملك قرار نشر إنجازه الفني والذي عادة لم تكتمل لمساته الأخيرة؟.. هل الورثة أم الأصدقاء؟.. إنهما طرفان يتصارعان، كل منهما يدعي أحقيته بالقرار النهائي!!

أثيرت هذه القضية قبل بضع سنوات مع آخر ديوان للشاعر الفلسطيني الكبير محمود درويش الذي صدر باسم «لا أريد لهذه القصيدة أن تنتهي».. اكتشفوا أخطاء في علم العروض - التفعيلات - أيضا هناك أخطاء لغوية، وبالطبع درويش أحد أهم علامات الشعر في عالمنا العربي، ولا يمكن أن يخطئ أبدا في هذه البديهيات!!

الفنان عادة يكتب عمله الفني أولا بتلقائية وهو يسارع بأن يلاحق ومضاته، قد يخطئ في وزن وقافية أو تتابع، وتأتي بعد ذلك النظرة الثانية المتفحصة والتي يطلقون عليها النظرة الباردة. أثناء الإلهام يعيش الفنان لحظة ساخنة يريد أن يُمسك فيها بالمعاني والكلمات قبل أن تفلت منه، وبعد أن يوثقها على الورق فإن عليه أن يبتعد عنها حتى تهدأ مشاعره ويبرد انفعاله ليتأمل بحياد ما انتهى إليه!

ولا يختلف الأمر لو أننا بصدد فنان تشكيلي أو مخرج سينمائي.. ليس بالضرورة أن آخر ما يكتبه الفنان هو أفضل ما لديه، بل إن الزمن بقدر ما يضيف للفنان من خبرة، فإنه على الجانب الآخر قد يخصم منه بكارة وطزاجة الإبداع، ونجد أنفسنا بصدد اختيارين، الأول يرى أنه من الناحية الأدبية لا يجوز أن نقدم للناس عملا فنيا قبل تنقيحه من خلال مبدعه الأصلي.. الثاني يؤكد أن من حق الناس أن يستمتعوا بآخر ومضات المبدع.

أتذكر مثلا أن المخرج عاطف الطيب غادر حياتنا قبل أن ينتهي من مونتاج فيلمه «جبر الخواطر»، وكان هذا هو أضعف أفلامه لأنه لم يضف إليه النظرة الأخيرة في المونتاج. أيقونة السينما العربية شادي عبد السلام صاحب الفيلم الرائع «المومياء» عثروا قبل أشهر قليلة على فيلمين تسجيليين لم يكملهما وعرضا في مهرجان الإسماعيلية بإشراف واحد من أخلص تلاميذه، لكننا افتقدنا في الفيلمين سحر شادي. مثلا محمد عبد الوهاب لم يكمل لحن قصيدة «في عينيك عنواني» التي كتبها فاروق جويدة، وأكملها الموجي محاولا أن يستحضر روح عبد الوهاب، وغنتها سمية القيصر فكانت لحنا لعبد الوهاب زائفا أو كما يقولون بالتعبير الشعبي لحنا «تايوانيا». وحاول بليغ حمدي في منتصف السبعينات أن يستكمل لحنا تركه فريد الأطرش هو «كلمة عتاب» غناء وردة، وتقمص بليغ روح فريد فلم نسمع لا فريد ولا بليغ، وكانت الأغنية «سمك لبن تمر هندي». عندما أراجع كل ما حدث شعريا وموسيقيا وسينمائيا أجدني أميل إلى الرأي القائل بأن الإبداع الناقص يظل مكانه المراكز الفنية المتخصصة ولا يقدم للجمهور.. لا يعرض على الناس إلا فقط ما انتهى إليه الفنان في حياته وأضاف إليه لمسته الأخيرة.. لا أحد من حقه أن يضع تلك اللمسة سوى المبدع نفسه!!