اقتصاد الأنفاق

TT

في 21 مارس (آذار) الماضي اختارت عروس مصرية وعريس فلسطيني من على جانبي الحدود مكانا غريبا لتلتقط فيه صور زفافهما، وهو أحد الأنفاق التي تمر على جانبي الحدود بين رفح المصرية وقطاع غزة الفلسطيني، لتعكس الصور كيف يمكن أن يتحول أمر غير طبيعي ويتناقض مع الطبيعة البشرية إلى مظهر عادي من مظاهر الحياة اليومية التي يعتادها الناس.

وبينما ارتبطت ظاهرة الأنفاق تحت الأرض بين جانبي الحدود وتوسعها بسيطرة حركة حماس على غزة بعد طرد السلطة الفلسطينية، فإن بداية الأنفاق بدأت منذ أيام الانتفاضة الفلسطينية الثانية على أيدي حركة فتح التي استخدمتها في إيصال الأسلحة والمؤن في وجه الحصار الإسرائيلي، وبعد أن سيطرت حماس على القطاع في عام 2007 سيطرت الحركة على الأنفاق التي كانت تابعة لفتح وقيدت حتى الأنفاق التي كانت تابعة لفصائل أخرى، وبدأت عملية توسيع شبكة معقدة وأكثر تطورا من الأنفاق يقدر عددها بنحو 1200 نفق تمر بها مختلف أنواع البضائع من وقود إلى سيارات وحيوانات حية. ولم يكن ذلك خافيا على أحد، فصور مداخل الأنفاق وحتى الحياة داخلها كانت متاحة للصحافة.

أصبحت الأنفاق عبر السنوات في فترة حكم حماس مشروعة قانونيا ولها تنظيمها وتراخيصها وفقا لدراسة منشورة على موقع مؤسسة الدراسات الفلسطينية للكاتب في الشؤون العربية نيكولاس بيلهام، فقد أصبح اقتصاد التهريب رسميا، وهناك لجنة حكومية خاصة تنظم قواعد فتح وإدارة الأنفاق من الجانب الفلسطيني في غزة، وهناك لوائح تنظم التعاملات التجارية عبرها والسلع المسموح بها والسلع غير المسموح باستيرادها، والرسوم الجمركية التي تحصل لصالح حكومة حماس، والتي منحتها قدرا من الاستقلال المالي عن السلطة الفلسطينية فضلا عن تشغيل آلاف الأشخاص في هذا الاقتصاد شبه السري المقنن.

وأصبحت هناك شراكات ومساهمون في ملكية هذه الأنفاق مما خلق عشرات المليونيرات في قطاع غزة من هذا النشاط الذي يقدر أنه وصل حاليا إلى مليار دولار سنويا، بينما في وقت ازدهار التجارة السرية فإن النفق يمكن أن يغطي تكاليف حفره خلال نحو شهر من عائدات مرور البضائع المهربة من خلاله على جانبي الحدود بين مصر وغزة.

ولأن الأنفاق تمر من جانبين، فهناك فتحة على الجانب المصري تدخل منها البضائع، كما أن هناك أخرى في الجهة المقابلة على الجانب الفلسطيني، وكان لا بد أن يكون هناك شركاء من الجانب المصري، ووسطاء وموردون يجلبون البضائع والسلع من عمق الأراضي المصرية لتهريبها عبر الحدود، مما خلق شراكة اقتصادية تجارية فريدة ولدت آليات مصالح قوية على جانبي الحدود من صالحها بقاء هذه الأنفاق بأي ثمن لأن إغلاقها يعني خسارة مالية كبيرة لهذه المصالح، لذلك لم تتأثر هذه التجارة التي تمر تحت الأرض بالقرارات التي اتخذت في العامين الأخيرين بفتح معبر رفح أو تسهيل دخول البضائع من فوق الأرض.. فتجاريا توفر هذه الأنفاق فرصا لتهريب بضائع وسلع مصرية مدعمة يمنع تصديرها مثل المنتجات البترولية أو سلع غذائية أخرى، فشلت حكومات مصرية متوالية في إيجاد وسائل لخفض هذا الدعم الذي يستنزف ميزانياتها خوفا من اضطرابات اجتماعية، كما أن هذه الأنفاق يمثل بعضها فرصة للتجارة الأخرى الأكثر سرية والمتعلقة بتهريب السلاح.

قد يكون المستفيد الأكبر من تجارة الأنفاق مجموعة من المصالح والعائلات على جانبي الحدود تحول بعضها إلى مليونيرات، إضافة إلى ما تجبيه حكومة حماس من ضرائب من تهريب السلع، لكنها في الوقت نفسه ساهمت في تخفيض أسعار السلع في غزة، وتوفير المستلزمات الحياتية، لكنها على الجانب المصري مثلت دائما نزيفا اقتصاديا، والأهم الخطر الأمني مع توسع نفوذ حماس في سيناء، وما يتردد عن عبور مسلحين إلى الجانب المصري خاصة بعد الاضطراب الأمني الذي حدث في سيناء في أعقاب 25 يناير (كانون الثاني) 2011.

هذا يفسر الحملة الأمنية المصرية الأخيرة في إغلاق هذه الأنفاق وهدمها والتي أخذت جدية أكبر من فترة الرئيس السابق مبارك الذي كان نظامه يغض النظر في أحيان كثيرة عن هذا النشاط على جانبي الحدود.

والحقيقة أن التعامل مع هذه الأنفاق كان يجب أن يكون بجدية أكبر منذ سنوات لأنه لا توجد دولة تحترم سيادتها على أراضيها تسمح بتوسع مثل هذا النشاط، خاصة إذا كان يهدد أمنها القومي، والتحدي الحقيقي الآن هو كيفية تحويل هذا النشاط في جانبه التجاري من تحت الأرض إلى فوق الأرض، كما يشتري ويبيع العالم كله مع بعضه.