عن المؤامرة والقمة العربية

TT

جلست مندهشا أشاهد وأستمع إلى السيد أحمد بن حلي، مساعد الأمين العام لجامعة الدول العربية، وهو يتلو قرارات القمة العربية الرابعة والعشرين المنعقدة في الدوحة.

كانت القرارات والمقدمة والنهاية والشكر الكثير والوفير تشكل كتابا كاملا جعل صوت الرجل يصل إلى الحشرجة حتى ينقذه من يقدم له كأسا من الماء، لكي يواصل بعدها القراءة الطويلة.

كان الأمر كله مملا، حتى إن كثرة من القادة تركت المكان ربما لكي تتريض في مكان آخر، أما من بقي من الصابرين فربما كان ذهنه في مكان بعيد.

كان العرب كما يفعلون كل مرة لا يعرفون معنى عقد قمة من الملوك والرؤساء وأصحاب الفخامة والمعالي، حيث يفترض في كل هؤلاء أنهم ليسوا مواطنين عاديين، وإنما هم أصحاب القرار الذي يحرك الدبلوماسية، ويحشد الجيوش، ويتخذ القرارات الصعبة بأن يفعل كل شيء أو لا فعل شيئا على الإطلاق. والقرار في جوهره أن تغير من الأمر شيئا فيصبح حاله ليس ما كان، ولكن قرار العرب كما يظهر هو أن ننقل قرارات سابقة تكررت في كل القمم ونضعها ونحفظها في البيان الذي سوف يصير مرجعية القمة التالية.

لا بأس بالطبع من انعقاد القمة كل عام، ولكن ما لم تكن هناك قدرة على التعامل مع قائمة طويلة من القضايا فتكفي الإشارة إلى بيانات القمة السابقة وما جاء فيها، ليس باعتبارها قرارات وإنما باعتبارها مواقف بالرفض والقبول والاستنكار والشجب، فهكذا كان ما توصلنا إليه في حالتنا الراهنة.

بعد الاستماع إلى ما قد يكون فاتني من قرارات القمة خلال العقود السابقة، جاء دور الفضائيات التلفزيونية التي تناقش وتحلل، ولما شاركت في بعضها وجدت أن القمة سرعان ما غابت، ولكن الحالة العربية ظلت حاضرة.

وكما حدث خلال عقود سابقة كان جزء من النقاش يدور حول المسؤولية عن الأحوال العربية البائسة كما تراها النخبة الفضائية.

هنا تتبلور نظرية متكاملة حول المؤامرة العالمية الكبرى، ليس فقط تلك التي أدت إلى ضياع فلسطين، وإنما لأنها أدت إلى الثورات أو الهبات في دول عربية كثيرة، فلا يمكن أن يكون في الأمر صدفة - هكذا قيل - أن يحدث ما حدث في تونس ومصر وليبيا وسوريا واليمن، إلا إذا كانت هناك يد دولية، على الأغلب غربية أميركية، هي التي حركت ما حدث. اقلب العملة وانظر لها على الوجه الآخر وسوف تجد نفس المؤامرة المزعومة من الغرب والولايات المتحدة مسؤولة عن غياب الثورات في بلدان عربية أخرى. المؤامرة الدولية على هذا الشكل مسؤولة عن الأمر وضده، التغيير الشامل وإسقاط النظم، وبقاء الأمور على ما هي عليه، تتغير وفق إيقاع خاص بها.

المهارة فائقة في استخدام نظرية المؤامرة، وقيل في السابق إن الغرب تآمر على صدام حسين لكي يحرم العرب من القوة الصاعدة للعراق، كما قيل إن صدام لم يكن إلا عميلا أميركيا قسم الأمة ودمر العراق حتى قبل انطلاق رصاصة واحدة.

وفي الحاضر فإن النظرية تتقلب بتقلب الأزمان، وهذه المرة فإنه لا يصدق أحد أن المصريين يمكنهم الانقسام بهذا الشكل، ولا يمكن في ثقافتهم العريقة أن يقوموا بصلب المجرمين منهم أو حرقهم، فمثل ذلك لا يليق في دولة متحضرة، وإنما يجري فقط لدى الغوغاء. الحقيقة هي أن الأمر حدث، ولذا لا يمكن تبريره إلا بأنه نتاج مؤامرة أجنبية تمزق بلدانا عربية، أو تشل أحوال الأمة عن اتخاذ القرارات الهامة.

والحقيقة أن نظرية المؤامرة قديمة وحتى كانت شائعة في دول صارت الآن متقدمة، وكانت المؤامرة أحيانا ماسونية، وأحيانا أخرى يهودية، وثالثة تم الجمع بين الاثنين، وهي الآن متجسدة في تعبير عام اسمه الغرب، أو خاص اسمه الولايات المتحدة الأميركية، ويكفي، كما قيل، أن كوندوليزا رايس تحدثت عن «الفوضى الخلاقة»، وقد أصابتنا «الفوضى» ولكن «الخلاقة» بقيت بعيدة بعد السماء السابعة، ربما لأن ذلك هو الجزء الأكثر أهمية من المعادلة.

ومع قدم النظرية فإن «التقدم» ارتبط عادة بزوالها؛ لأنه يرتبط أول ما يرتبط بقيام الشعوب والقادة بتحمل المسؤولية عما يقومون به من أعمال. وما يجري في بلاد العرب جرى ما هو أكثر منه في كل بلاد العالم، سواء عندما نشبت الثورات وعمت الفوضى وساد الانقسام.

الولايات المتحدة في جوهرها هي نتاج انقسام عن التاج البريطاني بثورة قاتل الكثيرون من أبطالها تحت العلم البريطاني؛ وقبلت بانشطار كندا عنها، وما بين الدستور الكونفدرالي والفيدرالي عمت الفوضى أرجاء الولايات الأميركية التي ما لبثت بعد سبعة عقود من قيام الدولة أن انقسمت في حرب أهلية حول الاتحاد والعبودية.

في كل هذه المراحل كانت اليد الأجنبية موجودة، مثل فرنسا وإسبانيا وروسيا، ولكن ما حدث في النهاية كان نتيجة قرارات أميركية دفع ثمنها أميركيون.

في العصر الحالي وقع الاتحاد السوفياتي تحت ضغوط الحصار العالمي، ثم الغزو مرتين، مرة بعد الثورة البلشفية، ومرة في الحرب العالمية الثانية، وبعدها الاحتواء في الحرب الباردة، ولكنه في النهاية انقسم إلى 15 جمهورية، وهو الذي كان يملك من الرؤوس النووية ما يكفي لفناء الأرض؛ لأن النظام الشيوعي لم يكن قابلا للبقاء.

يوغوسلافيا انقسمت إلى ست دول، وإثيوبيا إلى دولتين، والهند سبقتهما إلى دولتين، وجرى كل ذلك في ظل حرب أهلية قاسية، أما في حالة واحدة وهي تشيكوسلوفاكيا فقد جرى الانفصال مخمليا دون إطلاق رصاصة.

كان العالم موجودا في كل هذه الحالات، وتحاول الدول أن تعظم من مكاسبها مما يجري، ولكنها لم تكن لتستطيع تحقيق ما جرى لو أن أصحاب الحال كان لهم رأي آخر.

صحيح هناك حالات قام فيها العالم عمدا بالتقسيم، كما جرى في ألمانيا، وفيتنام، وكوريا، ولكن في الأولى والثانية كانت إرادة التوحيد أقوى فاستطاع الألمان قيادة أوروبا اقتصاديا إلى الدرجة التي يقبلون بها بإعادة توحيد ألمانيا، وفي فيتنام كانت الوحدة بالثورة والكفاح المسلح مهما كانت إرادة الغرب أو الولايات المتحدة. مصائر الدول تتحدد بما يريده أهلها حسب قدرتهم على اتخاذ القرار، مع معرفة أن لكل قرار ثمنا، يدفع مالا أو أرواحا، لا فرق، ولكن لا يوجد أبدا غذاء بالمجان.