المهرجانات الثقافية العربية.. و«الجنادرية» مثالا.. وتوجهاتها المستقبلية!

TT

لا شك أن إقامة المهرجانات الفكرية والثقافية في بعض العواصم والمدن العربية ساهمت إلى حد معين في تنشيط حركة الفكر والثقافة في العالم العربي، وكان لفعالياتها الأثر الملموس في بلورة أفكار إيجابية حفزت الأدباء والمثقفين العرب إلى الإنتاج الجيد وإثراء المكتبة العربية بكتب ومؤلفات كثيرة في الفكر والسياسة، تعتبر حتى الآن نواة طيبة لرقي ونهضة المجتمعات العربية المعاصرة وأجيالها القادمة.

من ناحية أخرى، أتاحت هذه المهرجانات فرصا كبيرة لالتقاء عدد وفير من رجال الفكر والثقافة بعضهم مع بعض، وفتح نوافذ البحث والحوار حول هموم الأمة العربية وأنجح السبل للنهوض بها على مختلف المستويات الحياتية وفي مقدمتها المستوى الفكري والثقافي.

ولعله لا يخفى على القارئ أن فكرة إقامة هذه المهرجانات الأدبية والثقافية ليست جديدة في التاريخ العربي، فقد كانت سوق عكاظ أول وأكبر تجمع أدبي وثقافي عرفه العرب في الجاهلية قبل أن تعرف مثله أي أمة من الأمم، هذا في الماضي، أما في العصر الحديث فمهرجان «الجنادرية» مثال يحتذى بلا شك.

كانت سوق عكاظ موسما كبيرا يلتقي فيه الشعراء والأدباء والمفكرون والفرسان ووجوه القبائل، حيث يتبارى الشعراء في إنشاء قصائدهم ومعلقاتهم، ويجدون من الحضور والناقدين والمحكمين من يهتم بإنتاجهم ويجيزهم على إبداعاتهم ويحتفي بهم ربما أكثر مما يحظى به شعراء وأدباء هذه الأيام.

ولقد أثمرت سوق عكاظ وأنجبت كثيرا من الشعراء والقصائد مما لا تزال تزخر بهم وبها كتب الأدب العربي حتى اليوم، وهذا دليل على علو كعب هذه الأمة في مجالات الأدب والثقافة وذائقتها العالية في ميادين الفن والإبداع.

والحقيقة أنه ليس هناك أدب من شعر ونثر لا يتخلله الفكر والثقافة؛ فالقصائد والمعلقات والخطب التي كانت تقال في سوق عكاظ وتشيع وتذيع بين المجتمعات القبلية في تلك الحقبة كانت مفعمة بالأفكار والحكم ودافعا قويا لتهذيب الأخلاق وتعميق التقاليد العربية الأصيلة التي أقرها الإسلام في ما بعد، كالكرم، ونبذ الحروب المدمرة، والمروءة، والحفاظ على الشرف، والحض على النجدة، وحسن الجوار، وغير ذلك من الموروثات والمزايا التي تتشكل منها طبيعة الإنسان العربي عبر الحقب الزمنية والأجيال.

ومرت الأيام.. وجاء الإسلام بتعاليمه العظيمة التي أنارت للإنسان في الجزيرة العربية طريق الحق والهدى، إلا أن الاهتمام بالشعر والأدب ظل قويا وطاله شيء كثير من التهذيب وعدم المبالغة، ووجه الأدباء والشعراء جهودهم في خدمة الإسلام وفكره العظيم.

وما تجدر الإشارة إليه أن الجزيرة العربية ظلت في العصرين الأموي والعباسي - كما كانت دائما - مشعل الأدب والشعر والثقافة والعلوم الدينية بشكل خاص.

وعندما أقام الملك عبد العزيز أول وحدة عربية إسلامية حقيقية على أرض الجزيرة العربية بعد صدر الإسلام، اهتم اهتماما شديدا بتنمية الأدب والثقافة، حيث أصبح يقام في المملكة مهرجان سنوي أدبي ثقافي تحت رعايته، وكان أدباء وشعراء ومثقفو البلاد العربية يتوافدون إلى مهرجان الجزيرة ويحظون بالتكريم والجوائز. ولكن هل حققت جميع هذه المهرجانات أهدافها الكبيرة والنبيلة كما يجب وكما ينبغي؟! هذا هو السؤال.

لقد وجه الأدباء والمثقفون والمفكرون العرب حملة من الانتقادات إلى هذه المهرجانات، منها على سبيل المثال لا الحصر التقليل من الاهتمام بالجوانب الأدبية والثقافية والفكرية وطغيان الغناء واللهو والرقص والاتجاهات السياحية المترفة على كل شيء!!

إن الهدف الأساسي من هذه المهرجانات هو خدمة الأدب والثقافة والفكر قبل المتعة واللهو وقبل حصر الفعاليات الثقافية والفكرية في نطاق ضيق، ومن ثم تسخير طاقات بعض هذه المهرجانات للدعاية والإعلان.

إن الذين انتقدوا مسار هذه المهرجانات في الآونة الأخيرة وتنبهوا إلى ما يتخللها من تصور دعوا بشكل صريح إلى التفريق بين ما هو هازل وما هو جاد. فهذه المهرجانات هدفها أدبي وفكري وثقافي وحضاري إيجابي، وليس هدفها اللهو والسياحة والاستجمام على حساب الغير!

المفروض أن يستغل جميع المشاركين في هذه المهرجانات جل وقتهم وجهدهم في تحقيق منجزات كبيرة على صعيد الأدب والفكر والثقافة، بما في ذلك البحوث والدراسات والندوات واللقاءات وتسهيل نقلها إلى الجمهور عبر وسائل الإعلام المختلفة.

لكن ما حدث ويحدث خلال بعض المهرجانات غير كافٍ وغير مرضٍ على الإطلاق، فهذه المهرجانات أدبية وثقافية وفكرية وليست مهرجانات لتجميع الأصدقاء وتكريس الشللية!

هذه مجرد إشارات لا يمكن تجاهلها في مسار الحديث عن المهرجانات الأدبية والثقافية التي تقام الآن سنويا في السعودية، وفي بعض العواصم والمدن العربية كمهرجان «أصيلة» في المغرب - أقال الله عثرته - ومهرجان «المربد» في العراق ومهرجان «جرش» في الأردن ومهرجان «الجنادرية» في الرياض ومهرجان «القرين» في الكويت ومهرجانات القاهرة الفكرية.

والواقع أن هذه المهرجانات الأدبية والثقافية علاوة على أنها كسرت حواجز العزلة بين الأدباء والمثقفين العرب ودعمت خيوط وقنوات التواصل بينهم وأفرزت الكثير من الدراسات والنتاج والأفكار الجيدة الهادفة إلى نهوض ورفعة الأمة العربية، إلا أنه يجب الإشارة بتجرد وجرأة ومن قبيل مصارحة الذات العربية إلى أن بعضها جرى توظيفه بغير الغايات التي أنشئت من أجلها، مما كان له انعكاسات وانحرافات خطيرة على الفكر العربي والأدب والثقافة العربية، ولا مجال هنا للحديث عن ذلك!

إن نظرة واقعية لمسار هذه المهرجانات تدعو إلى تصحيح أساليب واتجاهات وأهداف العمل خلال إقامتها وترشيد فعالياتها بما يخدم الفكر والثقافة ويأخذ بيد المجتمعات العربية إلى الأرقى والأفضل، لا سيما ونحن في عصر مليء بالتحديات والثقافات الدخيلة الأكثر خطرا على هذه الأمة من جميع وسائل القتل والدمار!

جميل جدا أن تقام هذه المهرجانات بهدف تلاقي وتعارف رجال الفكر والمثقفين والمفكرين وبهدف تلاقح الأفكار وتمازج الثقافات في المجتمعات العربية، ومن ثم حفز هؤلاء على الإنتاج الراقي والإبداع في فنون الأدب والفكر والثقافة مما يصب في بوتقة النهضة العربية بشكل عام. إني أخشى ما يخشاه الأديب والمثقف العربي، وهو أن يستمر الانحدار بهذه المهرجانات إلى الدرجة التي تصرف الجميع في النهاية عن حضورها وربما انصرف الضيوف المدعوون من الأجانب عن متابعتها وتقييم منجزاتها.

إن الكثير من فعاليات بعض هذه المهرجانات تدنى إلى درجة كبيرة، وخصوصا في الجوانب البحثية والمسرحية بالذات، إنه أمر محزن حقا يجب معالجته بتوسيع دائرة الاستشارة فيه، بعيدا عن المعارف والأصحاب!

إن المأمول من هذه المهرجانات أن تتعامل مع النتاجات والأفكار السامية الناهضة وتقفز على الأحداث وترتفع بأهدافها عن كل ما هو سطحي وهزيل ومؤقت ودعائي، ولن يتم لها ذلك أو تتحقق لها ديمومة إلا بتكوين مصادر تموينية مالية لهذه المهرجانات، وذلك بتحويلها إلى مؤسسات ربحية حتى يكتب لها النجاح والاستمرار.

إنني ما زلت أذكر ما قاله لي أحد المثقفين والمفكرين خلال فعاليات أحد المهرجانات العربية. قال لي بألم وحزن شديدين: «إن ما يحدث هناك مهزلة كبيرة، ولا أريد أن أجاملك يا صديقي.. فقد سعدت بحضور مهرجان (الجنادرية) خمس مرات لأن هذا المهرجان الثقافي التراثي زودني بقناعات واضحة، ومنها سمو الأهداف وكثافة المنجزات وعقلانية الأداء والاهتمام بالفكر والثقافة والأدباء والمثقفين إلى حد ليس عليه من مزيد، ولكن حافظوا عليه بتحويله إلى مؤسسة استثمارية».

قلت: شكرا لك.. ولكني لا أستطيع أن أقول في مهرجان «الجنادرية» مثل قولك، فشهادتي فيه مجروحة، فقد عملت فيه منذ دورته الأولى عام 1405هـ.

قال وهو يشد على يدي: «أنا سوف أقول ما أراه بإنصاف وتجرد في جدوى المهرجانات العربية الثقافية، وسوف ترى ذلك في كتاب قريبا - إن شاء الله - وسوف أركز على التوجهات المستقبلية لهذه المهرجانات التي من أبرز أهدافها النهوض بالأمة وتوعية الشعوب العربية التي تواجه أخطر التحديات في هذا القرن والقرن القادم»!