مفارقات حرية التعبير الأميركية

TT

لا توجد ترجمة عربية دقيقة للإنجليزية «satire». قاموس «المورد» يعرفها بـ«المقطوعة الهجائية». ربما لأن الثقافة العربية تراها العكس من شعر المديح. «مايكروسوفت» يترجمها «هجاء»، وكذلك «غوغل» لكن يضيف عليها مرادف «التهكم».

النقد الساخر بتوظيف المفارقة (اجتهادي الشخصي للترجمة مفهوميا conceptual) هو المداد اليومي الذي أغمس فيه قلمي كصحافي سياسي يعلق، من أم البرلمانات، على مقترحات الساسة والمناظرات التي تتخذ طابع المنازلة، وهي ثقافة إنجليزية، سواء في السياسة، أو في المحاكم، حيث تلعب البراعة اللغوية التهكمية للمحامين الدور الأول في إقناع المحلفين، ضمن قضاء لا تحكمه قوانين وإنما يسيره منطق الجدل العقلاني.

معجم «نيو هاملين» لدائرة معارف الكلمات يعرف «satire» بـ«توظيف المفارقة، أو التهكم، أو السخرية، أو ما شابهها من وسائل، لفضح أو استنكار أو استهجان رذيلة، أو عيب أو نواقص، أو حماقة... إلخ». ويضيف تعريفا ثانيا «صياغة نثرية أو شعرية، تعرض الرذائل والنواقص والحماقات للسخرية والاستنكار».

ويعرفها معجم «أكسفورد» بتوظيف «humour» (بدورها يصعب ترجمتها والأقرب روح الدعابة كملكة عقلية تمكن المرء من اكتشاف المضحكات وسرعة بديهة التعبير عنها وقبولها بصدر رحب)، أو المفارقة، أو المبالغة أو التهكم لفضح، أو انتقاد أو حماقة أو رذائل، أو نفاق.

شغلت الترجمة تفكيري وجهدي العضلي والذهني، بحثا في معاجم كلاسيكية في خزائن كتبي (أفضلها على البحث على الإنترنت) منذ قرأت ما ظننته «كذبة أبريل» (April Fool)، بتحقيق النائب العام المصري مع مقدم التلفزيون الدكتور باسم يوسف بتهمتي «إهانة رئيس الدولة وإهانة الإسلام».

ما يعتاده الإنسان السوي كنكتة في أول أبريل (نيسان) بنشر خبر مناقض للعقل، يراه المحرومون من الـsense of humour (أي الذين استؤصلت من أذهانهم وقلوبهم ملكة استكشاف المضحكات) أمرا جادا وربما تهديدا.

لإعداد كذبة أبريل 1997 كفقرة في «عالم الصحافة» (برنامج ابتكرته وأعددته لتلفزيون «إم بي سي» 1992 - 1998) صممت صورة صحيفة خيالية صيغت أخبارها بالإنجليزية والعربية معا، مع تعليق بأنها صدرت أول أبريل (إشارة لأنها نكتة) لعبور هوة الثقافة بين العرب والغرب.

في اليوم التالي خابرني مسؤول من مكتب الكولونيل القذافي ليبلغني سلام «الأخ معمر» طالبا إرسال نسخة في الحقيبة الدبلوماسية من الجريدة التي لم يعثروا عليها ربما لأنها «نفدت من السوق».

الكولونيل القذافي سبق نظيره المصري بـ15 عاما، في إثبات صعوبة ترجمة مفاهيم الـ«satire» لتفكير الرؤساء العرب؛ وقبله أثبت التاريخ مدى ضيق صدر وذهن الساسة الأوتوقراطيين بهذا الفن الانتقادي.

في مسرحياته الكوميدية كـ«السحاب»، و«الضفادع»، و«النحل»، و«ليسستراتا»، سخر الإغريقي أريستوفانيس (446 - 386 ق.م) من الساسة، ورجال الدين، وقادة الجيش، بمفارقات تفضح ازدواجية معاييرهم، وتجارتهم بالدين، وكذبهم على الناس، مبتكرا تقنية درامية هي التي وظفها يوسف في برنامجه «البرنامج»، وفيه قلد الأميركي جون ستيوارت في «ديلي شو» (العرض اليومي)؛ لكن سبقهما شارلي شابلن عام 1940 بتهذيب شاربه كأدولف هتلر تهكما في فيلمه الساخر «الديكتاتور الأعظم». النظرة الأوتوقراطية غير التسامحية للحياة تعني (في كل النماذج التي درستها كمؤرخ وخبرتها كصحافي سياسي) أن صاحبها حرم من ملكة روح الدعابة، ويرى أي سخرية من مفارقات تصرفاته تهديدا يتطلب إشهار السلاح.

محاولة السفارة الأميركية في القاهرة لإقناع الرئيس مرسي بأن النكتة، كجزء من الثقافة الشعبية المصرية لآلاف السنين في سخرية الناس من الكهنة والحكام والبيروقراطية (تاريخيا اختراع مصري)، هي ظاهرة سياجتماعية صحافية من صلب التركيبة الديمقراطية، تطورت إلى خلاف أثبت مدى رفض أول مكتب رئاسي منتخب في مصر لممارسات الديمقراطية التي أوصلته للحكم.. حيث نشر «تويتر» السفارة الأميركية في القاهرة رابطا لبرنامج ستيوارت كدليل للرئيس مرسي على سخرية تلفزيوني أميركي من الرئيس أوباما، وقبله لثماني سنوات مستمرة من الرئيس جورج بوش. وردت الرئاسة المصرية على الـ«تويتر»: «من غير الملائم لهيئة دبلوماسية المشاركة في ترويج دعاية سياسية سلبية».. وهو رد يثبت ملاحظتي كمؤرخ بأن الساسة أو من هم في مراكز سلطة ولا يؤمنون بالديمقراطية وحرية التعبير، يحرمون من ملكة دعابة لفهم المفارقة كالقذافي وكذبة أبريل أو رد الرئاسة المصرية التي ربما تستثني نفسها من بقية البشر الذين يمكن التنكيت عليهم (عند قبض المسلحين الثوار على القذافي بدأ إلقاء محاضرة أخلاقية باستعلاء «أتعرفون الخطأ من الصواب، والحق من الخطيئة؟»).

وتعريفا لـ«satire» نوظف مفارقة أن صحافيين مثل يوسف وأصحاب مدونات وفكاهيين هم من انتفضوا على نظام مبارك فوفروا لمرسي فرصة الوصول للرئاسة، وزميلنا عبد الرحمن الراشد يشير إلى «المفارقة أنه [الرئيس مرسي] أفرط في وعوده وتعهد مرات بأنه سيصون الحريات».

أبرز المفارقات في الحكاية أن سفارة بلد تقدس المادة الأولى من دستوره حرية التعبير ولا تسمح للكونغرس بإصدار قوانين لتقييدها، فرضت رقابة على حسابها على «تويتر» بعد احتجاج مكتب الرئيس مرسي، ليختفي الحساب ثم يعاود الظهور محذوفا منه الزقزقات المشيرة إلى يوسف وحرية التعبير والرابط مع برنامج ستيوارت (رغم وجوده على الـ«يوتيوب»).

السفيرة آن باترسون ضمن تيار أميركي ينادي منذ سنوات بدعم «الإخوان» (فور انتخابات خريف 2011 البرلمانية في مصر ذهبت للتباحث مع مرشد «الإخوان» وليس مع النواب المنتخبين) تحت وهم أن هذه هي إرادة الشعوب..

هل تكرر الحماقة التاريخية نفسها؟

في نهاية 1989 احتج صدام حسين للأميركيين على مقارنة «صوت أميركا» له بالديكتاتور الروماني نيكولاي تشاويشيسكو. اشتكى مساعد وزير الخارجية جون كيلي، لوزير الخارجية جيمس بيكر، بقوله «مروجو الديمقراطية (pushers democracy أي تعبير كمروجي المخدرات بين الشباب) في صوت أميركا يفسدون جهود استمالة صدام إلى معسكرنا». ففرض بيكر رقابة على البث آمرا بضرورة موافقة وزارة الخارجية المسبقة قبل بث أي تعليق عن الديمقراطية في العالم العربي، بينما لقي صدام اعتذارا مكتوبا.

وانتقد السيناتور بوب دول، زعيم الأقلية في الكونغرس وقتها، الصحافة الأميركية، معتذرا لصدام (غضب الأخير من نشر «واشنطن بوست» تعليق «صوت أميركا») مؤكدا فصل كاتب التعليق من وكالة الأنباء الأميركية.

فقط نذكر معالي السفيرة الأميركية، التي استرضت الرئيس مرسي بفرض رقابة على «تويتر»، باعتذار كيلي وفرض بيكر الرقابة على «صوت أميركا»، ومدى عرفان صدام بالجميل عندما غزا الكويت بعد ستة أشهر فقط من الواقعة.