بارقة طيبة حقا

TT

قبل سنوات لا أذكر عددها طلبت مجلة «المجلة» (رئاسة عبد الرحمن الراشد) أن يضع عدد من الكتاب التوقعات المحتملة في بلدهم. مقالتي كان عنوانها «تمام سلام رئيسا للوزراء في العام الجديد». لم يأت تمام بك يومها، وغضب الرئيس رفيق الحريري، الذي كان يعتبر أنه باق في رئاسة الحكومة إلى زمن طويل. ليس فقط أن تمام سلام لم يأت رئيسا للحكومة بل خسر في بيروت مقعد آل سلام النيابي التاريخي، يوم اجتاح الحريري الزعامات السنية، حديثها وقديمها، فيما فازت حسناء مجهولة تدعى غنوة جلول بمقعد سليم الحص.

شعر رفيق الحريري بالزهو لما حقق من شعبية طاغية، لكنه ما لبث أن شعر بالأسف والندم. تلك عائلات سياسية كان الأفضل أن يكون معها وتكون معه. تصرف تمام سلام حيال خسارته، كما كان سوف يتصرف في فوزه. أخلاقكم في الفوز، أخلاقكم في الخسارة.

صح توقعي بمجيء تمام سلام بعد نحو عقدين فقط. وهذا دليل آخر على مهارتي في معرفة الشؤون اللبنانية. غير أن تمام سلام، بالنسبة إليّ وإلى كثيرين، إن لم يكن عموم اللبنانيين، ظل دائما في مرتبة الكبار. وحافظ دائما على الخلق الذي ولد فيه ونشأ عليه. ولم نعرف له خصوما، ولا عرفنا له سجودات على أعتاب أحد. لم يدخل في صفقة سياسية أو وطنية أو تجارية، بل بقي، رغم متاهات لبنان، كالخط المستقيم، قامة وروحا.

بقيت دارة آل سلام في المصيطبة مفتوحة كما كانت في تاريخها. في الأعياد وفي المناسبات الأخرى، كانت الناس تذهب إليها أفواجا، مع أن من عادة اللبنانيين ألا يمرون ببيت ليس في الحكم والنفوذ. لكن كانت هناك علاقة شخصية لنا جميعا بذلك البيت. وكل واحد كان يذهب إلى الدارة وكأنه عائد إليها بعد غياب قصير واضطراري.

كان الرئيس صائب سلام صاحب شعار «لبنان واحد، لا لبنانان». وكان صاحب مدرسة سياسية ورثها عن والده وطور فيها. وكان صاحب سلوك اجتماعي وسطي اعتدالي وقائم على الأخذ في الاعتبار، مشاعر الآخرين أولا. تمام طور في هذه المدرسة، وشذب فيها، وألغى منها تماما جانب الخصومات، مهما شدته إليها الظروف.

طبعا، يجيء في زمن غير زمن صائب سلام، وفي لبنان قلّت فيه المودات وغابت فيه اللياقات. ويأتي في وقت صعب وخطر وحاد وبابلي. ولا نعرف ماذا يستطيع أن يحقق في هذا الانقسام المحلي والجحيم الإقليمي. لا ضمانة لشيء، لكن بوليصة التأمين موثوقة مائة في المائة: أخلاق تمام سلام وكفاءته في التعاطي الصبور مع سياسات لبنان. بارقة أمل صلبة في بلد ينحرف إلى الظلام.