يوصي بالعمل أم بالغناء؟

TT

من الآن وإلى أن يبلغ هذا العالم أشده ورشده، أي أن تصبح الشعوب نفسها هي أيضا الدول، سوف نظل نأمل بأن ترزق الأوطان قادة ورجالا مستنيرين وخيرين ومنجزين. لاحظ جنابك، أن ثمة بلدانا لم يعد من المهم أن نعرف من انتخبت أو متى. على الرغم من أنني صحافي ملزم بالمتابعة، لا أذكر أنني أعرف اسم رئيس وزراء السويد أو النرويج أو الدنمارك منذ 20 عاما. لا أحد منا يحفظ اسم رئيس سويسري، إلا إذا صادفه مرة يمشي في الحديقة العامة، أو راكبا الباص المائي في البحيرة.

لماذا؟ لأن شعوب هذه الدول زعيمها القانون وقائدها المؤسسة. وحفظت واجباتها وحقوقها، وتعلمت ما هي واجبات الحكم وما هي حقوقه. يتصرف محافظو المدن فيها وكأن قطع شجرة في المدينة مثل قطع رأس في برج لندن، ويعملون منذ الآن على مشاريع القرن الثاني والعشرين. حكومة النرويج تريد الحفاظ على مستوى المعيشة لمواطنيها بعد مائة عام، مع احتساب نسبة التضخم ومعدلات الحياة وصندوق التقاعد.

مائة عام؟ للدقة، 110 أعوام، لأن ثمة احتمالات للخطأ. ومن هو الرجل المسؤول عن ذلك؟ لا اسم له، لأن هذه مسؤولية جماعية. همّ الناس ليس مسؤولية فردية، والقانون ليس رجلا ولا مزاجا.

الدول التي لم تبلغ هذه المرحلة، حتى الراقية منها، لا تزال شعوبها تضرع إلى الله أن يمنحها مسؤولين.

برلين، التي هي العاصمة الاقتصادية للقارة، حمى وجودها وكرامتها ذات يوم رجل يدعى فيلي برانت. وأنقذ ألمانيا من ركام الحرب وذر الرماد عجوز يدعى كونراد أديناور. وتحولت الرياض من مدينة صغيرة إلى موطن 5 ملايين إنسان برعاية سلمان بن عبد العزيز. 50 عاما لم يهبط مبنى ولا سقط جسر. القاهرة، كبرى مدن العرب، ليست في حاجة إلى «أمير جماعة» يوزع الأحزمة بل إلى أمير عاصمة يوزع المسؤوليات. لم يعد يعني للناس شيئا أن تسميها «قاهرة المعز». هذا ماض بعيد والشعوب تعيش في الحاضر وتخطط لمستقبل أبنائها. ولا عاد يكفي مصر أن تغني للنيل وتحدو. فأجمل تكريم للنيل أن تصبح القاهرة من حوله كما أصبحت فيينا حول الدانوب وباريس حول السين ونيويورك حول الهدسون ولندن على التيمس وروما على التيبر. لم يعط الله الأمم أنهرا عظيمة لكي تغني لها بل كي تقيم فيها المدن والثورات الصناعية وقلاع الازدهار. مصر لها النيل والبحران وأشهر ممر مائي بين القارات. ومع ذلك فإن همها باسم يوسف، الذي يخاف منه الحكم على نفسه. حسنا أن القضاء لم يرسله إلى السجن، وإلا لكان تحول من الضحك إلى البكاء، تماما كما تحول من طب القلب إلى طب الكوميديا. الأخير، يقول العلماء، أكثر فائدة للبطين الأيسر والبطين الأيمن.