الخيط بين ثاتشر والسادات

TT

هناك نوعية فريدة من الزعماء السياسيين يمرون كل فترة على مجتمع أو بلد ما، عادة ما يكونون مثيرين للجدل والخلاف، وقد تكون بعض أهم سياساتهم مكروهة أو غير شعبية، لكنهم يصرون على المضي في طريقهم ولديهم القدرة والإرادة على تنفيذ سياسات غير شعبية، ويتركون بصمتهم بعدهم لعقود كثيرة وتصبح سياساتهم مقبولة أو متبناة بشكل أو بآخر من قبل لاحقيهم حتى لو كانوا على خلاف فكري أو سياسي معهم.

من هؤلاء رئيسة الوزراء البريطانية السابقة مارغريت ثاتشر الملقبة بـ«المرأة الحديدية»، وهي أكثر السياسيين من حزب المحافظين بقاء في مقعد رئيس الحكومة حتى أقصاها رفاقها في الحزب بعدما ربحت فترة ثالثة في الحكم للحزب. وعربيا، هناك الرئيس الراحل السادات الذي لم يعمر طويلا، ولكن سياساته ما زالت مثار جدل حتى اليوم في ما يتعلق بالسلام والانفتاح الاقتصادي.

ثاتشر التي أعلن خبر وفاتها أمس عن عمر 87 عاما، هي واحدة من أعظم السياسيين البريطانيين تأثيرا بعد الحرب العالمية الثانية، غيرت وجه المجتمع البريطاني خاصة على الصعيد الاقتصادي، لم تكن سياستها محبوبة حتى من فريق كبير من سياسيي حزب المحافظين الذي كانت ناشطة فيه منذ شبابها، وظلت حتى اليوم مثار جدل في المجتمع البريطاني، البعض يحبونها بشدة، وآخرون يكرهونها بشدة أيضا، إلا أنه بين هذا وذاك هناك شبه توافق أو إجماع على قامتها السياسية العالية، واعتراف ضمني بأن هذه السياسات المكروهة أو غير الشعبية كانت ضرورية وآتت ثمارها بعد سنوات، فقد كانت مثل الطبيب الذي لم يأبه لتوسلات المريض وأصر على إعطائه الدواء المر.

وهي نفسها تعترف بأن بعض سياساتها جلبت لها الضرر، فبين ألقاب كثيرة أطلقت عليها، كان هناك لقب «سارقة الحليب»، الذي وصفت به تهكما على قرارها عندما كانت وزيرة التعليم في حكومة إدوارد هيث في السبعينات بوقف توزيع الحليب المجاني على الأطفال بين سن السابعة والحادية عشرة في المدارس مسببة حملات قوية ضدها من حزب العمال والصحافة. قالت في ما بعد: لقد تعلمت درسا قيما من ذلك، فقد حصلت على أكبر قدر من الكراهية السياسية مقابل الحد الأدنى من الفائدة السياسية. لكنها بعد أن أصبحت رئيسة حكومة في عام 1979، كانت حكومتها مسؤولة عن الكثير من الإجراءات الخاصة بإصلاح التعليم وتنظيمه، ومراقبة مستوى الأداء، والتي تبنتها تقريبا الحكومات المتعاقبة بعد ذلك بما فيها حكومات حزب العمال.

في بعض الفترات تكون هناك لحظة تحتاج لزعيم من نوع معين هي التي تصنع تاريخا مختلفا، وقد جاءت ثاتشر إلى الحكم في 1979 في وقت سمي بشتاء السخط، حيث كانت هناك حالة غليان واضطرابات في بريطانيا مع اتساع الإضرابات العمالية والمهنية، مما دعا رئيس الوزراء العمالي جيمس كالاهان وقتها إلى التفكير في إعلان حالة الطوارئ.

المفارقة أنها جاءت في وقت اضطرابات لتتبنى سياسات غير شعبية خلقت لها أعداء كثيرين، فقد أضعفت نقابات واتحادات العمال القوية، وتبنت برامج جريئة للخصخصة وتقليل حكم الحكومة وإزالة العقبات أمام تحرير السوق، وذلك في إطار إيمانها بسياسة السوق الحرة، ويحملها البعض مسؤولية انهيار بعض الصناعات التقليدية التي اشتهرت بها بريطانيا مثل صناعة الصلب وتحويل الاقتصاد إلى اقتصاد خدمات، وفي فترة معينة ارتفعت أرقام البطالة إلى 3 ملايين من قوة العمل وهو مستوى قياسي في ذلك الوقت، وما زالت سياساتها جدلية حتى الآن بما فيها محاولتها في بداية حكمها لخفض التضخم المرتفع بتقليل عرض النقد، وليست هناك إجابة واضحة بعد عقود من تركها الحكم حول ما إذا كان سيحدث لو كانت السياسات مختلفة.

تعبير «السياسات الثاتشرية» ليس محبوبا حتى اليوم في بريطانيا خاصة إذا تذكر الناس أحداث احتجاجات ضرائب المساكن، والمواجهات مع عمال مناجم الفحم، لكن بعض هذه السياسات هي التي حولت بريطانيا من بلد إيجارات إلى ملاك عقارات بعدما أزالت التعقيدات التي كانت تجعل البنوك ومؤسسات التمويل العقاري تحجم عن تمويل الناس العاديين، ولم يعد أحد يتحدث اليوم عن توسيع الحكومة أو عودتها إلى ملكية المؤسسات، بل على العكس، رأينا حكومات عمالية مخالفة فكريا لنهج ثاتشر تتبنى برامج خصخصة على نفس الدرجة، ويجادل البعض بأن السياسات التي تبنتها ثاتشر هي التي جعلت الاقتصاد البريطاني أكثر تنافسية وقدرة على استيعاب الصناعات التكنولوجية الجديدة، وحافظت على وضع بريطانيا بين أكبر الاقتصادات الصناعية الكبرى في العالم.

إذا أخذنا نموذجا مشابها لهذا النوع من الساسة في العالم العربي، فهو أنور السادات، فقد كانت لديه الجرأة والقدرة على تبني سياسات جدلية غير شعبية حتى بين معاونيه ليمضي في توقيع معاهدة السلام مع إسرائيل، وينهي عقودا من الاستنزاف كانت فيها مصر مضطرة إلى خوض حرب كل عشر سنوات. وفي الوقت نفسه، رأى أن الاقتصاد المتهالك الذي تسيطر عليه الدولة غير قابل للاستمرار. وما زالت معاهدة السلام وسياسة الانفتاح الاقتصادي مثار جدل وليستا شعبيتين، لكن هناك شبه توافق عام حتى من جانب الخصوم السياسيين على أنهما سياسات غير قابلة للتراجع عنهما، وأن فوائدهما تجبّ الأعراض الجانبية السلبية.