العراق.. عراقان

TT

قال الرصافي:

يا أهل لندن ما أرضت سياستكم

أهل العراقين لا بدوا ولا حضرا

وهذا هو العراق، منقسما على نفسه أبدا في عراقين. ولك أن تختار منهما. وتسمع شكاواهم الآن بأن البداوة قد دحرت أخيرا حضارة أهل بغداد واستولت على كل شيء. تفتح الراديو والتلفزيون فلا تسمع أو ترى غير رقص الدبكة وغناء الأبوذيات والمواويل. كاظم الساهر ونصير شمة والأعظمي يعيشون خارج العراق الآن. لاحظت البداوة تدب في أصغر تفاصيل الخدمة حتى في أرقى فنادق الخمسة نجوم والدرجة الأولى من طائرات الخطوط العراقية. اضطررت لتعليم النادل: يا ولدي، الغربيون لا يشربون الشاي أو القهوة سادة. لا بد من فنجان ثان من الحليب. ثم تذكرت كيف يصف البغداديون الشخص البائس بقولهم إنه يعيش على الخبز والشاي. وتذكرت قول الإمام علي: يبقى الفقير فقيرا أربعين سنة بعد غناه.

هذا هو الانقسام الحقيقي في العراق. إنه ليس بين السنة والشيعة، ولا بين المسلمين والكتابيين، بل بين من يشربون الشاي سادة ومن يشربونه بالحليب، بين من يستمعون للمقام البغدادي ومن يستمعون للأبوذية الريفية.

«بغداد هي الحقيقة». كان هذا هو عنوان البرنامج الغنائي الراقص الذي افتتحوا به «بغداد عاصمة الثقافة العربية». سرعان ما لمست أن حقيقة بغداد حقيقتان أيضا. فعلى المسرح كانت بغداد الحضارة. الصبايا العراقيات يرقصن الباليه بثقة على أنغام الموسيقى الكلاسيكية. وبعيدا عن المسرح، وبين صفوف المشاهدين تجد القوم منشغلين بالدردشة والمشاركة بالمقابلات التلفزيونية، لا ينظرون إلى الرقص ولا يستمعون للموسيقى، ولكنهم يفتحون قريحتهم للإدلاء بآرائهم فيهما. إنها الحقيقة الأخرى لعاصمة العراق، بلد الفوضى والهذرفة الفارغة والروح الذاتية.

وهناك عراقان آخران. عراق العروبة وعراق الشعوبية. في مهرجان «بغداد عاصمة الثقافة العربية»، تجد محاولة وزارة الثقافة للتأكيد على هوية العروبة؛ فالضيوف والمشاركون جاءوا من سائر البلدان العربية، من المغرب وموريتانيا إلى الجنوب العربي وإمارات الخليج العربي، وجل مفردات الاحتفال مستمدة من التراث العربي. يجسم الدكتور سعدون الدليمي، وزير الثقافة، سعي العراق للحفاظ على هويته العربية. ولكن لمجلس الوزراء من يمثل الهوية الشعوبية. وجدت نائبة في البرلمان أن وزير الخارجية هوشيار زيباري - الذي كما هو معروف كردي - يمثل هذا الاتجاه، فطالبت في المجلس بإبعاده عن هذا المنصب لأنه أخذ ينأى بالعراق من كتلة العالم العربي. طالبت بتعيين وزير قومي جديد «يعيد الوجه العربي للعراق».

وعراقان آخران. عراق الظلام وعراق النور. كان من المبهج أن أسمع رئيس الحكومة نوري المالكي يفتتح المهرجان بإشارته ثلاث مرات لعزيمته على دحر قوى الظلام. وبقي السؤال من هي القوى الظلامية التي يقصدها؟ بين العراقيين من سيجيب بأن حزبه «الدعوة» أول من يمثلها. ولكنه بدعمه لهذا المهرجان، أجده يتناغم مع وزيره الدليمي في السعي لعصرنة العراق بإطار عربي يواكب الحضارة العالمية، ويعيد لبغداد دورها كمنبع للنور والتنوير الحر.