قائدة تسبح ضد التيار

TT

كانت عبارة «صوت في الصحراء!» هي التي تبادرت إلى ذهني بعد إجرائي مقابلة مع مارغريت ثاتشر في طهران في أبريل (نيسان) 1978. لقد كانت الزعيمة الجديدة لحزب المحافظين البريطاني في زيارة كجزء من جولة تهدف إلى تعلم السياسة الخارجية شملت كلا من واشنطن وباريس وبون.

وقبل إجراء المقابلة، حدث أمر غير متوقع، حيث تعطل مصعد فندق «هيلتون» الذي كانت تقيم فيه «المرأة الحديدية» المستقبلية.

ما لفت انتباهي لم يكن لهجتها بقدر مضمون خطابها. فقد اعتمدت مفرداتها على كلمات وعبارات موروثة قديما بإجماع الآراء. وتحدثت عن المشروعات الحرة، واقتصاد السوق، والمسؤولية الفردية، والعملة القوية. لقد كانت ثاتشر على الساحة الدولية بمثابة ذراع دعائية لوكالة الاستخبارات المركزية الأميركية أثناء ذروة الحرب الباردة مثلما كانت إذاعة «أوروبا الحرة». وابتعدت واشنطن عام 1978، بفضل مبدأ المشاركة الذي انتهجه هنري كيسنجر، عن شن حرب آيديولوجية ضد الشيوعية، واتجهت إلى دعم الإمبراطورية السوفياتية عبر القروض الهزيلة والمعونات والمنح.

تطرقت ثاتشر إلى قضية «هزيمة النظام الشيوعي» الذي كان واضحا، وتحدثت عن أشكال الملكية الجماعية، ومن بينها النظام الاشتراكي في أوروبا الغربية.

لقد تقابلت في السنوات السابقة مع العديد من القادة البريطانيين سواء في طهران أو لندن. كان من بينهم رؤساء وزراء مثل إدوارد هيث وجيمس كالاهان، ناهيك عن وزير الدفاع اللورد كارينغتون وكذلك وزير الخارجية البريطاني ديفيد أوين. ورغم انتمائهم لأحزاب معارضة لبعضها البعض، فإن لديهم الآراء نفسها المتعلقة بالقضايا السياسية الداخلية والخارجية الرئيسة. كانت لدى هؤلاء الساسة وجهات نظر إدارية وليست آيديولوجية تجاه دور الحكومة البريطانية.

ولعل ما أثار إعجابي بكالاهان هو تركيزه على سمة الصبر باعتبارها فضيلة مثلى للسياسيين في أي دولة ديمقراطية. ولا تزال تتردد في أذني إحدى عباراته: «على الرغم من أن الديمقراطية قد تقود المجتمع إلى حافة عدم استقرار الحكم، فإنها تبقى النموذج الأكثر كفاءة لإدارة البلاد».

وبطبيعة الحال، كانت بريطانيا في ذلك الوقت في حالة من عدم استقرار الحكم جراء الإضرابات المتواصلة وهبوط قيمة العملة.

لقد أشفقت على هيث، فقد غلبه النوم لمدة 15 ثانية أثناء إجراء المقابلة معه، ليثبت أنه إنسان في المقام الأول. كان كل من هيث وكالاهان ينظر إلى الحكومة بوصفها أداة لحل المشكلات في الوقت الذي كانت تنظر فيه ثاتشر للحكومة باعتبارها مشكلة. وقد يكون هذا الانطباع صادما حينما يأتي من امرأة ترتدي فستانا أزرق ولا ترغب في أن تظهر بمظهر النساء المثقفات لتؤكد أنها مقاتلة على استعداد لتحدي كل المستأسدين بالداخل والخارج.

كنت واثقا من شيء واحد في نهاية مقابلتي معها، ألا وهو أنها لن تكون قادرة على قيادة حزبها للفوز بالانتخابات من خلال خطاب يتحدى معايير الحكمة المتعارف عليها. أضف إلى ذلك أن أي مجتمع منهك القوى وشديد التحفظ مثل المجتمع البريطاني لن يقدم على أي مخاطرة بتأييد أفكار متشددة للتيار اليميني الثوري.

التقت ثاتشر - خلال الأسبوع الذي أمضته في إيران، والذي شمل جولتها السياحية في مدينتي أصفهان وشيراز - بمجموعة من المسؤولين الإيرانيين، بمن فيهم الشاه. لكنها أصرت أيضا على مقابلة «مواطنين إيرانيين» مثل أساتذة الجامعات وعمال المصانع وأصحاب المحال التجارية. ولم تترك أي انطباع جيد لدى النخبة الإيرانية. ووصفها وزير الخارجية في ذلك الوقت، عباس علي خلعتبري، بأنها «مملة نوعا ما». ودار بين هوشنغ الأنصاري، رئيس شركة النفط الوطنية الإيرانية، وبينها حوار آيديولوجي حول دور الحكومة في المجتمعات الحديثة. وزعمت ثاتشر أن النظام الإيراني «نصف اشتراكي»؛ نظرا لحجم القطاع العام ودور الحكومة في التخطيط الاقتصادي. ورد الأنصاري قائلا إنه لا يمكن للحكومة إدارة البلاد كما لو كانت متجرا، وينبغي أن تتدخل لدعم الأعضاء الأكثر ضعفا في المجتمع الإيراني.

وسرعان ما ثبت خطؤنا جميعا. فقد أصبحت ثاتشر، بعد مرور عام على زيارتها، رئيسة وزراء بريطانيا العظمى، لتنطلق بذلك ثورة تهدف إلى تغيير النموذج الهجين للمجتمع البريطاني المتطور في أوروبا الغربية والذي أطلقت عليه مسميات متنوعة. فتارة كان البريطانيون يطلقون على دولتهم مسمى «دولة الرفاهية». ووصفها الألمان بأنها دولة تتبنى نظام «اقتصاد السوق الاجتماعي»، بينما وصفها الفرنسيون بأنها تطبق نظرية «الحقوق المكتسبة».

أرادت ثاتشر لثورتها أن تجذب الديمقراطية الاجتماعية الأوروبية الغربية تجاه الوسط لتنأى بها عن الماركسية. وقد فاق نجاحها أبعد التوقعات.

قطع حزب العمال البريطاني صلته بالأفكار الماركسية، واعتمد مبدأ الثاتشرية في عهد توني بلير مؤخرا. ولقد وجد الحزب الديمقراطي الاجتماعي الألماني أنه من الشجاعة دفع الإصلاحات التي انطلقت من المؤتمر الذي عقد في باد غوديسبرغ لنتيجتها المنطقية، حتى إن الحزب الاشتراكي الفرنسي، رغم تردده في تبني الإصلاحات، قام بتغيير جوانب من استراتيجيته الكاملة. قادت التجربة البريطانية في عهد ثاتشر أيضا إلى إجراء إصلاحات في النظام الاشتراكي الإسباني، بينما اختفى النظام الاشتراكي الإيطالي تماما.

أرادت ثاتشر هزيمة السوفيات في ساحة المعركة الآيديولوجية، مما ساعد الغرب على الانتصار في الحرب الباردة. ومع أن سقوط الإمبراطورية السوفياتية كان راجعا لأسباب عديدة، فقد كانت مع الجانب المنتصر في النهاية. كانت ثاتشر في ذروة مجدها بحلول منتصف الثمانينات؛ حيث انتصرت على الماركسيين الذين سيطروا على أجزاء من حركة النقابات العمالية البريطانية، وتخلصت من الطغاة العسكريين في الأرجنتين. ومرة أخرى، بدأ يسري قانون نيوتن القائل «ما ارتفع شيء إلا وهوى». فمع نهاية العقد، انحسرت الأضواء عن ثاتشر، واضطرت إلى التقاعد، لتسجل أطول فترة يمضيها رئيس وزراء بريطاني في منصبه في القرن العشرين.

وبحسب كل الروايات، فقد نجحت ثاتشر بقدر ما كان يمكن أن يفعل أي سياسي مقنع في نظام ديمقراطي حديث. كان بإمكانها أن تخفف من حدة بعض العلل المجتمعية من دون علاجها فعليا، وربما لأنه ليس بمقدور أحد علاجها. وكان ما يحكم تصرفها هو عبقريتها في توظيف سلطاتها. إنها لا ترغب في أن تحصل على منصب بقدر رغبتها في أن تستحوذ على سلطة، على عكس معظم السياسيين الآخرين في الأنظمة الديمقراطية الغربية. وفي الوقت الذي كان يرغب فيه معظم السياسيين الغربيين في العوم على السطح غالبا، أرادت ثاتشر أن تسبح ضد التيار.

ومع أنه من الصعب ألا نعجب بإنجازاتها، فإن من الخطأ المبالغة فيها. وفي حين أنه ليس ثمة شيء مؤكد في المجتمعات البشرية بشكل نهائي، فإن البندول لا يبقى على جانب واحد إلى الأبد.

في اليوم الذي توفيت فيه ثاتشر، أعلنت أكبر نقابة عمالية في بريطانيا عن اعتزامها القيام بإضراب عام للمرة الأولى منذ عام 1926. وهنا يتساءل المرء عما إذا كانت ثاتشر قد فكرت في ذلك الأمر قبل وفاتها، أم لا.