تأبين ثاتشر والبروتوكولات الدستورية

TT

استدعاء مجلس العموم من إجازة عيد الفصح ليسجل نواب الشعب البريطاني كلمات التأبين - فيه سابقة دستورية، تستحق استعراضها للقراء، خاصة مع انشغال البلدان الناطقة بالعربية بالإصلاحات السياسية أو بناء الديمقراطية، أو كليهما.

إجازات البرلمان، (تسمى Recess؛ أي عزلة أو تعطل وليس Holiday أو Break)، تحدد مقدما لأربع أو خمس سنوات، بطول الدورة البرلمانية (الفترة ما بين افتتاح الملكة، كرأس الدولة، للبرلمان، ورفعه بتقديم رئيس الحكومة استقالتها للملكة لإجراء انتخابات جديدة). وتتوافق تعطيلات البرلمان مع عطلات المدارس العامة (إجازتي نصف السنة، وأعياد الميلاد، ورأس السنة، وعيد الفصح، وعطلة نهاية الربيع، ثم العطلة الصيفية). ولا يستدعى النواب لجلسات استثنائية بقطع هذه العطلات إلا في حالات غير عادية لشأن عظيم يهدد مصالح البلاد، أو أمنها. وآخر مرة استدعي فيها النواب، كانت في أغسطس (آب) 2011 عندما اندلعت أعمال شغب ومظاهرات وحرائق ونهب متاجر.

ونذكر القراء بأن بريطانيا ليس لها دستور مكتوب، ولا يوجد حتى للبرلمان، بمجلسيه، «العموم» و«اللوردات»، لائحة مكتوبة لتحديد الإجراءات، وإنما هي تقاليد، وأعراف، وممارسات يحفظها البرلمانيون، والصحافيون في البرلمان عن ظهر قلب؛ أي تقاليد بالممارسة كاستخدام أدوات المائدة، وإتيكيت وقوف الرجال عند دخول سيدة الغرفة، أو الانتظار في الطابور على محطة الأتوبيس، هي عادات وممارسات لا تتغير، وتدل على استقرار المجتمع.

تقليديا، الجهة الوحيدة القادرة على استدعاء البرلمان للانعقاد هي المتحدث الأول Speaker (تترجم عربيا خطأ إلى رئيس البرلمان. وترجمة التسميات والممارسات والوظائف البرلمانية معضلة إعجازية، إذ لا يوجد مقابل لها في العربية أو لغات البلدان التي لم تعرف تاريخيا التقاليد والممارسات البرلمانية... فهناك رئيس للبرلمان Leader Of The House هو زعيم الأغلبية، وهو منصب بحقيبة وزارية، كما يوجد «أبو المجلس» Father Of The House، وهو أقدم عضو منتخب، وحاليا النائب المحافظ السير بيتر تابسيل، العضو منذ 1959 - نفس السنة التي انتخبت فيها مارغريت ثاتشر، وكان مساعدا للسير أنتوني أيدين في انتخابات 1955). ولذا، سأكتبه بالعربية سبيكر (مثلما نكتب تلفزيون، و«فيس بوك»، وأسماء الصحف والمدن، كما هي لكن بحروف عربية).

سبيكر صاحب الكلمة الأولى والأخيرة. وينسق مع نظيره سبيكر مجلس اللوردات ليتم استدعاء المجلسين.

تقليديا، يطلب رئيس الحكومة (وقد يطلب زعيم المعارضة من رئيس الحكومة) من سبيكر استدعاء المجلس. وينسق المسؤولون عن انضباط الأعضاء من الأحزاب كلها بينهم استدعاء النواب. يسمى مسؤولو الانضباط بالكرابيج أو السياط Whips (أيضا لا ترجمة لها بالعربية، لكن الاسم مشتق من أنهم يوجهون النواب كالقطيع للتصويت حسب أوامر الحزب). مكتب الويبس، يعرف مكان كل نائب في الحزب وعلى اتصال بهم على مدى الـ24 ساعة عبر الجوال «بلاكبيري» (وبإشارة عليه يوجهون النواب للتصويت).

عندما علم رئيس الوزراء، ديفيد كاميرون، بوفاة الليدي ثاتشر، قطع رحلته إلى إسبانيا وفرنسا (كان خطط للتشاور مع زعيميهما، حول الأزمة المالية للاتحاد الأوروبي)، وعاد لينسق مع زعيم المعارضة، وزعيم «الديمقراطيين الأحرار»، (الشركاء في الائتلاف)، ويطلب من مكتب سبيكر استدعاء البرلمان للانعقاد. سبيكر، جون بيركو، طلب أن يوجه رئيس الوزراء كتابا رسميا لمكتب سبيكر بانعقاد المجلس (وهو أمر غير مألوف، إذ اعتمدت المرات السابقة على الطلب الشفهي). وحسب المصادر المقربة من سبيكر، فإن الأخير لم يرَ أمرا جد خطير يهدد مصالح الأمة، أو أن الحكومة أجرت مفاوضات أو اتخذت إجراءات تغير السياسة العامة أو خطوات خارجية كتوقيع معاهدة، أو إعلان حرب، أو ميزانية جديدة (كلها أمور تستلزم التقاليد البريطانية إعلانها أمام مجلس العموم أولا، أو ضرورة إسراع رئيس الحكومة بشرحها في أسرع وقت أمام النواب إذا اضطرت الحكومة لاتخاذها أثناء عطلة المجلس). ولأن عطلة عيد الفصح البرلمانية، تنتهي في الثانية والنصف بعد ظهر الاثنين 15 أبريل (بعد غد)، فقد أصر بيركو على تسلم كتاب رسمي، ليكون في مكتبه وثيقة عندما يناقش أساتذة السياسة الدستوريون، والمؤرخون، الواقعة في المستقبل.

كاميرون عمل باحثا شابا بعد التخرج في مكتب الليدي ثاتشر، التي كانت تعامل الشباب كأبنائها، بحنان صارم، وبانضباط (أذكر في الثمانينات عندما كنا نجتمع بها كصحافيين ويسكب أحدنا – خاصة من الرجال - فنجان قهوة أو كوب شاي، كانت تسبق الجميع إلى التقاط ما سقط، وتتصرف مثل الأم التي ترتب ما أفسده الصبيان، مع نظرة تأنيب يشوبها مزيج من الحنان وتوجيه المربية الجادة، وإشارة من يدها بضرورة الحفاظ على النظافة والنظام). أراد كاميرون أن يسجل التاريخ كلمات التأبين، وذكريات النواب - خاصة المحافظين، إذ تصرف يسار حزب العمال بحماقة طفولية، حيث قاطع نواب هذا التيار جلسة الأربعاء. فكل كلمة تقال في مجلسي العموم واللوردات، سواء في الجلسات، أو في تحقيقات ومساءلات اللجان، تسجل في الأوراق الرسمية، وفي سجل هانزارد؛ وتصبح المرجع التاريخي.

ولذا، سمعنا من خصوم ثاتشر، من نواب ونائبات اليسار، انتقادات (أثارت استنكار كثير من النواب) لسياسات الليدي ثاتشر، بل وتحميلها مسؤولية سياسة البنوك التي أدت إلى الأزمة المالية الحالية، ليس نكاية وتشفيا فيها، بل لإدراك هؤلاء أن كلماتهم ستسجل في المرجع الأساسي الذي سيستقي منه مؤرخو الفترة، وقائعهم ومعلوماتهم في المستقبل. المفارقة أن صغار هؤلاء النواب لا يذكر لأحدهم (أو لأحدهن) إنجاز أو موقف يستحق إشارة، ولو على فهرس الصفحة، في كتب التاريخ، لكنهم (هن) يجدون مدخلا إلى صفحات التاريخ من بوابة فتحتها السيدة الحديدية التي وقفوا يهجون إنجازاتها.

تساؤل اليسار عن تشييع جنازة الليدي ثاتشر يوم الأربعاء في موكب رسمي من كاتدرائية سانت بول (القديس بولص)، بحرس من أفرع القوات المسلحة، والكتائب التي خاضت حرب الفولكلاند عام 1982، وقرار الملكة إليزابيث الثانية حضور قداس الجنازة. وباستثناء جنازة السير ونستون تشرشل عام 1964، لم ولا تحضر الملكة أبدا جنازات أي رؤساء وزارة أو زعماء سياسيين.

حضور الملكة يجعلها State Funeral جنازة دولة رسمية وليس رسمية فقط بمشاركة ممثلي 200 دولة، ولا يحظى بهذا التكريم سوى رؤساء الدول. الجنازة، بتشييع الجثمان على عربة مدفع تجرها ستة خيول، وما بين 11 إلى 17 طلقة مدفع (21 طلقة للملوك فقط) - ستكون أكبر وأفخم مشهد تاريخي هذا العام، فلا يوجد في العالم ما يضاهي الترتيب البريطاني للاستعراضات الرسمية العامة.