النأيان العربيان المحيران والتحرشان الدوليان الخبيثان

TT

زيارة الرئيس باراك أوباما إلى إسرائيل والسلطة الوطنية الفلسطينية والأردن من الأربعاء 20 مارس (آذار) 2013 إلى الجمعة 22 وما قيل من معسول الكلام فيها، أضافت المزيد من الحيرة إلينا في أمر هذا الرئيس الذي افترضنا أنه سيكون بداية اعتدال في الموقف الأميركي تنتهي بالتدرج إلى موقف عادل بشأن الموضوع الفلسطيني. كما أن الزيارة جعلتنا نستحضر واقعة حصلت عام 1990، في قمة عربية استثنائية استضافها عراق الرئيس صدام حسين، ونحن نعيش أجواء قمة عربية دورية استضافها الشيخ حمد بن خليفة أمير دولة قطر يوم 28 مارس 2013، اتخذت على مضض وتردد دولتا النأي المحير العراق ولبنان قرارا بتجليس المعارضة في مقعد الدولة السورية، وكانت مطالبة بقرارات حاسمة ومنها ما يتعلق بإعلان موقف من مبادرة السلام العربية، بمعنى هل تبقى على الطاولة في انتظار تفعيلها أم تطوى تعليقا لا يعاد النظر فيه إلا إذا كانت هنالك جدية للتعامل معها من جانب الطرف الأميركي الموحد إزاءها. ونقصد بـ«الأميركي الموحد» الموقف الأميركي - الإسرائيلي مدموجا.. خلاصة تلك الواقعة أن القادة العرب كانوا اتفقوا على عقد قمة استثنائية يوم الاثنين 28 مايو (أيار) 1990 في بغداد. وبدل أن تبدي الإدارة الأميركية (نحن هنا نتحدث عن أميركا جورج بوش الأب) بعض التأييد لهذا الجمع العربي القيادي وتشجعه على اتخاذ موقف لمصلحة التسوية للصراع العربي - الإسرائيلي، فإن الإدارة تلك انتهزت مناسبة اجتماع وزراء الخارجية الذين كانوا عقدوا اجتماعا يوم الثلاثاء 22 مايو وسجلت موقفا متحرشا خبيثا يتمثل بمذكرة إلى الأمانة العامة للجامعة تضمنت ما يشبه «التحذير الأخوي»، حيث جاء فيها الآتي: «نأمل أن يتفادى الزعماء خلال القمة الحماسة اللفظية المفرطة ونحثهم بدل ذلك على الاهتمام بمنهج بناء يعزز آفاق تحرك حقيقي نحو مسيرة السلام. كما نأمل ألا تصدر القمة العربية أي بيان قد يعتبر محاولة للوقوف ضد حق اليهود السوفيات في الهجرة أو ضد مصلحة إسرائيل الأساسية في قبولهم داخل إسرائيل...».

كانت المذكرة التحرشية تحذيرا أكثر منه تمنيا على القادة العرب. وكانت أيضا خروجا على الأصول. وكانت في مجملها صوتا إسرائيليا بالوكالة، أي ما معناه أن إدارة الرئيس جورج بوش الأب تنوب عن إسرائيل في توجيه هذه المذكرة التي هي أشبه بالتحذير. ومن جانبها فإن الأمانة العامة أخذت علما ووزعت نسخا من المذكرة على الدول الأعضاء. وكاد الأمر لا يتجاوز أخذ العلم، لولا أن الدولة المضيفة نشرت المذكرة مع تعليق حولها.

في نهاية الأمر كانت المذكرة حلقة من المسلسل البوشي الذي انتهى إلى نبذ العراق كرقم صعب في الصراع العربي - الإسرائيلي، وهذا حدث نتيجة التشجيع الضمني للرئيس صدام حسين لكي يغزو الكويت، إلى ضربه شر ضربة بعد ذلك، وهذا ما تعيشه الأمة حتى الآن للسنة الثالثة والعشرين على التوالي.

بعد 23 سنة تسجل روسيا فلاديمير بوتين موقفا تحرشيا بالخبث نفسه ويتمثل في أن وزير الخارجية سيرغي لافروف لم ينتظر تفعيل قرار القمة بشأن اعتبار المعارضة السورية في شخص رئيس الائتلاف الوطني معاذ الخطيب تمثل سوريا، فانتهز وجود وزير خارجية تايلاند في موسكو وقال في مؤتمر صحافي عقده معه: «استقبلنا نتائج قمة الجامعة العربية في الدوحة بأسف، وأقول بصراحة إن جوهر القرارات التي اتخذت يلغي في حقيقة الأمر بيان جنيف الذي يدعو إلى المفاوضات بين الحكومة والمعارضة، وأنا لا أرى كيف يمكن للأخضر الإبراهيمي بعد الآن أن يعتبر مبعوثا ليس للأمم المتحدة فقط، بل للجامعة العربية أيضا! وحتى من دون التطرق إلى قرار الجامعة الذي يسمح بتوريد السلاح إلى المعارضة ومدى تناسبه مع القانون الدولي، يمكن الاستنتاج بأنه يهدف إلى تشجيع المجابهة وتشجيع طرفي النزاع على الاستمرار في الحرب حتى الانتصار...». ثم في اليوم نفسه، يوم صدور قرار الجامعة، أكمل المندوب الروسي لدى الأمم المتحدة فيتالي تشوركين الذي ارتبط اسمه بـ«الفيتو» على قرارات دولية كانت عمليا لمصلحة سوريا النظام والمعارضة، تحديد الموقف الروسي بالقول «إن روسيا تعارض بحزم أي محاولة لمنح مقعد سوريا لدى الأمم المتحدة إلى المعارضة لأن مثل هذا التغيير سيقوض سمعة الأمم المتحدة...».

ما يلفت الانتباه أنه لا الأمانة العامة للجامعة العربية ولا حتى الدولة المضيفة ولا الدول التي اتخذت القرارات قي قمة الدوحة، التي سجلت روسيا اعتراضها عليها، لم ترد على الموقف الروسي المتحرش ببيان يفند التلاعب من جانب كرملين بوتين منذ الشهرين الأولين للمحنة السورية ويركز بالقرائن على مواقف كلامية ومساعدات وتحريضات من جانب روسيا لنظام بشار، الأمر الذي زاده اقتناعا بأن بقاءه هو في عدم تشجيعه العملي للتسوية السياسية وإفشاله للمهمة الأممية الأولى التي تولاها الأمين العام السابق للأمم المتحدة كوفي أنان، ثم للمهمة الأممية - العربية التي تولاها الأخضر الإبراهيمي، وقبل ذلك رفضه للمبادرة العربية المماثلة للمبادرة بشأن الأزمة اليمنية.. بل قد يجوز القول إنه لولا الموقف الروسي لما كان للمحاولات التي نشير إليها أن تتعثر من دون أن يعني قولنا هذا أن دور إيران لم يكن هو الآخر فاعلا. لكن الفعالية الأهم هي للدور الروسي لكون روسيا تملك حق النقض لأي قرار لا تحبذه يصدر عن مجلس الأمن، في حين أن ما تملكه إيران هو مجرد وقفة لبعض الوقت قد تصل إلى ساعة على منبر الجمعية العمومية للأمم المتحدة يقول فيها الرئيس محمود أحمدي نجاد الكلام الذي يبهر جمهوره في الداخل وجماهير الأعماق الإيرانية في لبنان وبعض دول الخليج واليمن، وحديثا في مصر الإخوانية، أكثر مما يمكن أن يفيد بلاده. وهذا حدث في الدورتين الأخيرتين للجمعية وقد يحدث في الدورة المقبلة بعد خمسة أشهر.

والقول إن الرد واجب لأن الموقف الروسي المعترض على قرارات القمة في ما يتعلق بالمحنة السورية كان تحرشا خبيثا وكان مسيئا للدول العربية في شخص الجامعة تماما مثل التحرش الأميركي الذي لخصنا مضمونه في إشارتنا إليه مطلع هذا المقال.. ونقول ذلك مع الأخذ في الاعتبار أن فعالية الخطوة النوعية للجامعة وعلى مستوى القمة بتجليس رئيس الائتلاف الوطني معاذ الخطيب بعد استرضائه على مقعد الدولة السورية، وهو أمر غير مسبوق لكي يتم البناء عليه، معنوية ولا تختلف من حيث الفعالية عن تلك الخطوة المتمثلة بحصول السلطة الوطنية الفلسطينية على مقعد الدولة المراقب في الأمم المتحدة. لكن الأمور ما زالت في بداياتها في انتظار الخواتيم على ما يجوز الافتراض والتمني في الدورة العادية المقبلة للجمعية العمومية في الأمم المتحدة في سبتمبر (أيلول) المقبل، حيث يمكن في هذه الأشهر الخمسة اتساع رقعة تجليس «دولة المعارضة» في سفارات «دولة النظام» وتمكين معاذ الخطيب من الوقوف خطيبا على منبر الأمم المتحدة، وفي هذه الحال لا يعود «الفيتو» الروسي حاضرا وكل ما يمكن أن يفعله فيتالي تشوركين هو مغادرة القاعة تطبيقا لمبدأ «ما سمعنا. ما رأينا. ما اعترضنا».

وأما بالنسبة إلى واقعة التحرش الأميركي كما أوجزناها، فإن الرد عليها وإن طال زمن الرد هو في مذكرة من الجامعة العربية إلى الإدارة الأميركية تتضمن الرأي العربي الشامل في سياسة أميركا في المنطقة والذي يقال في الكواليس وفي اللقاءات الثنائية بين كبار المسؤولين العرب، وخلاصته أن العالم العربي في حيرة من أمر هذه السياسة منذ الرئيس الثالث والثلاثين ترومان وحتى الرئيس الرابع والأربعين أوباما، هل هي لتكفير شعوب الأمة بهذه السياسة بدليل أن خيبة الأمل الناشئة عن زيارة الرئيس باراك أوباما لإسرائيل ورام الله والأردن وما قاله وأظهره خلال الزيارة، هي بحجم بارقة الأمل برئاسته في زيارته عام 2009 إلى المنطقة وإلقاء مطالعته الشهيرة من على منبر جامعة القاهرة قائلا فيها ما يثلج الصدر العربي - الإسلامي المحتقن غيظا من السياسة الأميركية. وهو في مطالعته تلك ساهم في إبقاء مبادرة السلام العربية على الطاولة لكن هذه المبادرة باتت تحتاج إلى الطي قليلا كي لا نفاجأ قبل مؤتمر عربي على مستوى القمة أو حتى قبل الدورة العادية المقبلة للجمعية العمومية للأمم المتحدة بعملية تحرش خبيث تتمثل كالأولى عام 1990 في تحذير العرب من مطالبة الولايات المتحدة بتحديد موقف واضح من القدس التي تتسارع عملية قضمها من جانب الصهاينة، وبنقل موضوع الدولتين من الثرثرة إلى التنفيذ. ومثل هذا التسويف ربما كان موضع تفهم في الولاية الأولى للرئيس أوباما على أساس أن الحسم يعطل عليه حلم الفوز بولاية ثانية، أما وأنه فاز بأربع سنوات أخرى فإنه لإثبات حسن النية، ولكي يكون رئيسا تاريخيا وليس عابرا، فإنه يحقق ذلك إذا أكد صدق وعوده، فلا يمحو في ليل إسرائيل نتنياهو يوم الأربعاء 20 مارس 2013 كلام نهار منبر جامعة القاهرة يوم الخميس 4 يونيو (حزيران) عام 2009، ووعوده التي سمعها منه خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز الذي يحترم المبدئيين ويضيق ذرعا بالمتلاعبين.