عشق المعرفة

TT

سلطنة عمان من الدول التي تفاجئ الزائر بسحرها وأسرارها، وتهيب به أن يخرج من فندقه ويبحث ويرى ويندهش. حدثني عن ذلك السير ترنس كلارك، السفير البريطاني السابق، فيما كنا جالسين في فندق الرشيد ببغداد نستريح من فعاليات مهرجان «بغداد عاصمة الثقافة العربية».

كثرة السؤال من علائم العلماء. واعتز بطفلك الذي يزعجك بإلحاحه بأسئلته. فهذا من علامات الذكاء والفطنة. كان أسلافنا من الفراعنة ومملكة سومر وبابل يعتزون بهذه الملكات، فتوصلوا للكتابة وعلوم الحساب والهندسة، واخترعوا العجلة. تجدد هذا السعي في العهد العباسي، ولكن بسقوط بغداد، انطفأت تلك الشعلة، وتملكنا الكسل والخمول. انتقلت الشعلة لأوروبا فاجتاحتها روح الاستكشاف وحب المعرفة. وبهما أينعت هذه الحضارة المعاصرة المذهلة، وسيطرت على العالم.

حدثني السير ترنس بأنه خلال عمله سفيرا لدى عُمان، سمع بنهر العسل واللبن الذي يجري في أحد وديانها. فعزم على اكتشاف أمره. سأل عنه فوجد أنه يجري في أعماق جبل في وادي بني خالد يصعب الوصول إليه. فاستعان بطائرة عمودية أنزلته في الوادي. اقتضى عليه السير إلى نهايته حيث وجد ثقبا في الجبل يقود لخندق ضيق لا تستطيع اختراقه إلا زحفا على بطنك. فعل ذلك، وبعد جهد جهيد انتهى به الخندق بكهف واسع، رأى فيه جدولا يتدفق بالماء من بين الصخور. أخذ حفنة منه بيده وذاقها فإذا بها حلوة كمزيج من العسل والحليب. شرب منها ما استطاع وعاد أدراجه. بدأ البحث عن سر هذا الماء. اكتشف أن صخورا معينة في الوادي تعطي هذا الطعم الحلو للماء.

حكاية ظريفة، ولكنها تكشف لنا عن روح الفضول وغريزة حب الاطلاع في الرجل الغربي، وتحركه للبحث والكشف والاستزادة بالمعرفة. فهذا سفير مشغول بمهامه الدبلوماسية يترك منصبه ويكلف نفسه كل هذا العناء، يزحف على بطنه مئات الأمتار في خندق مظلم ضيق ليكتشف حقيقة هذا الماء. أظن أن قلة مِن دبلوماسيينا يفعلون ذلك سعيا وراء المعرفة؟ من قوم السير ترنس خرج أولئك الرجال الذين خاطروا بحياتهم، وأحيانا ماتوا، للوصول للقطب الجنوبي واكتشاف أميركا وأستراليا والصعود لقمة إفرست، واكتشاف منابع النيل ومجاهل أفريقيا، وعبور الربع الخالي والطيران في السماء، وأخيرا النزول على القمر، وقضوا كل حياتهم يجربون ويبحثون ويتوصلون لكل هذه المخترعات والأدوية التي ننعم بها جميعا.

إنه حب المعرفة والموت من أجلها. وممن ماتوا منهم من أجلها جيودانو برونو الذي أعدمته الكنيسة حرقا لإصراره على القول بأن الشمس وليس الأرض هي مركز الكون. وكاد غاليليو يلحق به لولا تراجعه عن القول بكروية الأرض ودورانها وتهريب نظرياته لنشرها سرا في الخارج. ولكن هذه الشلة من عشاق المعرفة فتحت في نهاية المطاف الطريق لكل هذه الثورة الفكرية والعلمية التي قادت البشرية إلى ما نحن عليه من السمو والرقي والرخاء.

بمثل هؤلاء الرجال تقوم الحضارات وتنهض الأمم.