طرابلس في قبضة «الشبيحة»

TT

العيش في العاصمة اللبنانية الثانية بات جحيما لا يطاق..

يرى الطرابلسيون أن الحرب الأهلية كانت أرحم عليهم مما يتجرعونه الآن. قنابل تدوي كل يوم، رشقات رشاشة عشوائية تباغت المارة، قذائف تنهمر في أي لحظة، مسلحون يستعرضون أسلحتهم وقد اعتلوا نوافذ جيباتهم، يجوبون الشوارع الرئيسة، قطع طرقات، فرض خوات على التجار وابتزاز للآمنين، إحراق محلات في وسط المدينة، سطو على شاحنات محروقات، هذا غير السرقة والخطف والنهب والطعن. النائب السابق عن تيار المستقبل، مصطفى علوش، شبّه ما تعيشه طرابلس في ظل سطوة العصابات المسلحة، بما شهدته مدينة شيكاغو في ثلاثينات القرن الماضي. هكذا لم يعد لقب «قندهار» الذي أطلق على طرابلس من سنوات يكفي وحده لوصف واقع الحال.

الأسبوع الماضي كان استثنائيا، السلاح المنفلت من عقاله، أضاف إلى مأساة الاقتتال المذهبي بين سُنة وعلويين الذي يقض مضاجع ضاحية طرابلس الشمالية، معارك سنية - سنية هذه المرة في ضاحية جنوبية. حادث من المفترض أنه فردي في منطقة أبي سمراء ذات الطابع السني الخالص، حيث تتمركز غالبية الحركات الإسلامية والقوى السلفية، تحول إلى قتال شوارع وهجوم على منازل، ونزوح للسكان. الحادث لم تنتهِ ذيوله بعد، فالانفجارات باتت خبزا يوميا للسكان هناك. وقد تقرر عائلة الشاب المغدور، الذي من أجله اندلعت المواجهات، والمعروفة بأنها مدججة بالسلاح، أن تثأر لفقيدها وتتجدد اشتباكاتها مع «جند الله» المتهمين بالاغتيال. هكذا تكون طرابلس قد أطبق عليها من قبل المسلحين بكماشة محكمة، وكأنما ثمة من يخطط لمحاصرتها وخنقها من كل جهة.

الانفجارات الأمنية التي تعيشها طرابلس تتسبب بها ثلاثة عناصر رئيسة متداخلة بحسب ما يقوله عارفون بخفايا الوضع الذي يزداد تعقيدا وخطورة؛ العنصر الأول هو الصراع السياسي، وهنا يلفت هؤلاء إلى أن المدينة تخطت مرحلة الصراع السني - العلوي الذي تحول تقليدا مميتا، أو حتى الاحتقانات السنية - الشيعية، كما أن صدام 8 و14 آذار لم يعد ملحوظا. ما كشفت عنه معارك أبي سمراء هو بداية صراع قد يطول بين من كانوا حتى الأمس فريقا واحدا، إما لأن ثمة مصالح سنية - سنية متضاربة أو لأن المصالح الانتخابية ومساحات النفوذ الضيقة هي التي تحكم أهواء الزعامات، وقد صار لكل منهم مسلحوه وقبضاياته. ويقول العارفون بأن وراء الصراع السياسي هناك صراع الأجهزة الأمنية فيما بينها، التي تغطى بمعية السياسيين، أو على أقل تقدير تغض الطرف، عن قتلة ومجرمين وخارجين على القانون، باتوا يلزمون السكان الاختباء بمنازلهم ليلا لتخلو الأجواء لهم تخريبا واعتداء على مصالح الناس.

العنصر الثاني هو تصاعد أعداد وأحجام الجماعات الإسلامية المسلحة، والمختلفة التمويل والولاءات، والتي تلجأ إلى الشارع عند كل احتجاج، تقطع الطرقات، وتطلق الرصاص، مما يشحن الأجواء، حتى بات الأهالي يعتبرون أن عليهم أن يعودوا إلى منازلهم ظهر الجمعة قبل انتهاء الصلاة، وبدء التحركات في الشوارع التي كثيرا ما انتهت بصدامات وإطلاق نار.

أما العنصر الثالث والأشد فتكا، فهو استفادة فئة من بلطجية الأحياء الفقيرة، من التناقضات الحاصلة، فامتشقوا سلاحهم وشكلوا عصاباتهم وأتباعهم. وهؤلاء معروفون بأسمائهم من قبل السياسيين والأمنيين، لا بل حتى من الناس العاديين. وهم محميون في الغالب من جهات كبيرة ونافذة تؤمن تحركاتهم وتغطي جرائمهم، ولا تستغرب أن تراهم يجتمعون مع هذا السياسي أو ذاك النائب دون حياء أو خجل. يخبرني أحد المشايخ الطرابلسيين المعتدلين، وقد ضاق ذرعا، وطفح كيله: «نعم هؤلاء الشبيحة يهددون مدينة بأكملها، ويتخذون من نصف مليون إنسان على الأقل، أسرى على مرأى ومسمع من دولة غائبة عن مواطنيها». وحين أسأله إلى متى؟ يجيب «حتى يستفيق الضمير ويتم التخلي عنهم أو تأخذ الحرب في سوريا طريقها إلى التسوية، ويفرج عن طرابلس وأهلها».

الأصوات ترتفع احتجاجا، وأجراس الإنذار تقرع حتى من قبل الإسلاميين أنفسهم. هناك من يحذر من أن «الأمر لن يقف عند هذا الحد وهناك خطر كبير فيما لو أن الأزمة استمرت ستطال بنيرانها كل القوى الموجودة في طرابلس على اختلاف انتماءاتها، لأن ما يحصل القصد منه أن تعيد طرابلس مشهد الحرب الأهلية بأسوأ صورها»، وهذا رأي رئيس المكتب السياسي في الجماعة الإسلامية عزام الأيوبي، وإسلاميين آخرين باتوا يفهمون أن النار لن توفرهم.

أقفرت طرابلس، وبات لا يأتيها إلا مضطر أو صاحب حاجة، بعد أن كانت عاصمة الشمال برمته، وملتقى أهله وعاصمته التجارية الزاهرة. تآمر زعماؤها عليها بمؤازرة قلة قليلة من أبنائها الذين باعوا ضمائرهم للشيطان، فأحالوها غابة للوحوش الكاسرة، ونهبا للطامعين في استغلالها مكانا لثأرهم أو ساحة لمعاركهم القذرة. غدا الأحد يخرج الطرابلسيون في مسيرة سلمية ضد الحرب، تحت شعار «أردتموها حربا! لن تكون.. »، وهي ليست المسيرة الأولى ولن تكون الأخيرة. لكن مشكلة الطرابلسيين أنهم باتوا يخافون حتى من السير في الشارع أو المشاركة في نشاط لا يعرفون من يباغتهم أثناءه. كسر الخوف وحده ينجي المدينة بينما يغط السياسيون في غيبوبة تأليف حكومة جديدة، والبحث عن قانون انتخابي يتقاسمون جبنته. هل حقا بعد أن يجدوا القانون الذي يرضي مطامعهم، ستكون طرابلس قادرة على الانتخاب؟ وهل يعتقدون أن شرارة الخراب ستبقى محصورة في دائرة ضيقة، ولن ترمي بشررها إلى أبعد من ذلك بكثير؟ أسئلة كثيرة ومحرجة برسم رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي والرئيس الجديد الساعي للتأليف تمام سلام، وبرسم كل النواب الأشاوس الذين منحهم الطرابلسيون ثقتهم، لكنهم خذلوهم شر خذلة.