إلى بوسطن.. مع حبي

TT

تجمع بوسطن بين الصرامة والعاطفية وبين التقليدية والحداثة، وبها الطبقة العاملة وطبقة الأثرياء، كما تمزج بين المحلية والعالمية، وتجمع بين دفء المشاعر والتحفظ، وبين نزعة الإصلاح ونزعة الجمود غير المتقبلة للإصلاح، وبين التقيد والصخب، وبين الإيمان بالخرافات والتفكير الحر، وبين الإغراق في الحداثة والإيغال في القدم.

بوسطن هي المنازل البسيطة العملية ثلاثية الأسطح في ساوثي ودورشستر وجامايكا بلين والمنازل الأنيقة التي تتخذ الطابع الفيدرالي في بيكون هيل وباك باي. وتتضافر المستشفيات العظيمة والتكنولوجيا الحديثة مع روح طبقة العمال.

إن بوسطن تسامح ولكنها تستعذب الضغائن. إنها تثمن الولاء، أحيانا على نحو يقابل باللوم أو التوبيخ، وترفض فكرة أنه يمكن أن يكون هناك أي خطأ في الولاء. التاريخ موجود في كل مكان، ولكن أهالي بوسطن يتجاهلون التاريخ أينما شعروا بأنه يروق لهم.

إن بوسطن تجمع الآيرلنديين والأميركيين وأيضا الإيطاليين واليهود والأفارقة واليونانيين واللاتينيين والآسيويين. فكر في هذا، كل شيء يحمل الطابع الأميركي يتركز في قلب بوسطن. غير أن هناك فترات يصبح فيها الجانب الآيرلندي - الأميركي أمرا محتوما لا مفر منه، وعليك أن تتخذ صف أي من الجانبين شئت أم أبيت.

تتسم بوسطن بالإفراط في الاهتمام بالسياسة، إلى حد أن كاتبة الأعمدة بصحيفة «واشنطن بوست»، ماري ماكغوري، التي رحلت عن دنيانا قالت إن أي مولود يأتي إلى الحياة هناك يولد ولديه جين إدارة حملات سياسية!

إن بوسطن مدينة معروفة بليبرالييها وأنواع الحكومات الجيدة، وقد انتخبت أو أعادت انتخاب أشخاص يقبعون في زنازين السجون. كانت مهد الحركة المناهضة للعبودية ومشهد بعض أشرس المعارك التي قامت ضد التمييز العنصري في المدارس إبان معارك نقل التلاميذ بالحافلات في السبعينات من القرن العشرين.

إنها المدينة التي يخوض فيها بارني فرانك جولة إعادة الانتخاب كعضو بالكونغرس عن ولاية ماساتشوستس بشعار «النظافة ليست كل شيء» والتي استطاعت فيها الناشطة لويز داي هيكس المعارضة أن تقول ببساطة: «تعرفون الموضع الذي أقف فيه». الجميع فعلها.

إنها فريق كابوت وفريق لودج، إضافة إلى فريق كيندي وفريق فيتزجيرالد. وقد فاز عمدتها الحالي، توماس منينو، بخمس انتخابات على التوالي لكونه شخصا يتحلى بالعزيمة والإصرار يتخذ إجراءات من دون خطابات منمقة أو نظريات كبرى للحياة الحضرية. إن مدن الجامعات تقدر الأفعال العملية بدرجة تفوق تقديرها للنظريات والمعتقدات المجردة.

بوسطن هي فريق الروك «ستانديلز» يشدو بأغنية «مياه قذرة»، التي تعتبر الآن الشعار متعدد الأغراض لكل الألعاب الرياضية. إنها تحتفي بنهر تشارلز قبل تنظيفه بمساعدة ضئيلة من تيب أونيل وتيد كيندي. وأنا غالبا ما أربط الأغنية بشكل كبير بانتصارات فريق «ريد سوكس» في فينواي بارك، وعندما قمت بتشغيلها في سيارتي عشية أحد الأيام القريبة، كنت أوشك على البكاء.

تعتبر بوسطن أيضا هي السلتيون والبرايتونز، وأيضا الوطنيون هناك في الضواحي. في عام 2004، عام «ريد سوكس» الساحر، كانت المدينة تمتلئ بلافتات تحمل كلمة «صدقوا!» ما زلنا نصدق.

بوسطن هي جوني موست، أشهر مذيع كرة سلة في العالم، الذي صاح قائلا: «هافليتشيك خطف الكرة!». إنها الجورب الذي يحمل بقعة دم لاعب البيسبول الشهير كيرت شيلينغ. إنها ركلة فريق «سنو بول» في عام 2002 ضد «أوكلاند» وسيجار انتصار «ريد أوروباك». حينما كنت في سن صغيرة، كنت على يقين من أن اسم بيل راسل الأول هو «ريباوند». بالفعل، كان ثمة خطأ من جانب بيل باكنر، لكن هذا قد تم تعويضه. إن التغلب على المحن والشدائد هو نهج بوسطن. ولنسعد بأميركيي نيويورك (لم أكن أتخيل قط أن أقول ذلك) عندما يشغلون أغنية «كارولين الجميلة»، أغنية «فينواي» المفضلة الرائعة والغريبة في الوقت نفسه، في نهاية ثالث شوط في استاد يانكي ليلة الثلاثاء.

بوسطن هي مدينة أدبية يتنافس فيها الكتاب الأشداء مع مؤلفي الماضي المتميزين. إنها «النهر الغامض» (Mystic River)، و«غود ويل هانتنغ» (Good Will Hunting)، و«آخر هتاف ابتهاج» (The Last Hurrah)، و«أصدقاء إيدي كويل» (The Friends of Eddie Coyle). إنها روبرت باركر ودنيس ليهان وجورج هيغنز.

قبل وفاته، وصف باركر سبنسر، بطله المتسم بضبط النفس الذي يخفي بالكاد قلبه الكبير، بأنه «جاد ولكن ليس مكروبا». وهذا ليس بوصف سيئ لبوسطن.

ولدت في بوسطن وترعرعت على طول الطريق عند نهر فال، لذلك يمكنني أن أقول إن سائقي بوسطن مهووسون، ويعكسون روحا فوضوية باعتزاز في ما وراء تاريخ عقلاني صارم من المحافظة على النظام.

ينبذ صديق تصميم الشارع ويصفه بأنه «مسارات لأبقار». وقال بيل برايسون إن نظام الطرق السريعة في المدينة «مفرط في الجنون»، إلى حد أنه «يبدو أنه قد تم تصميمه من قبل شخص أمضى طفولته في تحطيم دمى على شكل قطارات». لقد تخطى العديد من مشروعات الطرق بمختلف أنحاء الدولة التقديرات الموضوعة. فقط بوسطن هي التي لديها مشروع «بيغ ديغ». كان من المفترض أن تبلغ تكلفته 2.8 مليار دولار، ووصلت إلى نحو 15 مليار دولار، ويمكن، بحساب كل عناصر المشروع، أن تصل إلى 24 مليار دولار، غير أنه ما زال يمثل إنجازا مفاجئا.

هذه الحزمة العجيبة من المتناقضات أتت لتمثل مدينة هي أيضا موقع الماراثون الذي وقع فيه الانفجار في يوم الوطنيين الذي تحول إلى يوم مروع بدلا من أن يكون احتفاليا. ودائما ما سيظل كذلك.

ربما يمقتني سبنسر لاعترافي الصريح هذا.. لكن أقول لبوسطن: أنت وطني، كم أحبك!

* خدمة «واشنطن بوست»