المثقف وعموم الناس

TT

تفجر خلاف علني بين مؤسستين مؤثرتين في بريطانيا. أقدم مؤسسة صحافة مسموعة ومرئية في العالم، (ومكتوبة في السنوات الأخيرة، فموقع الـ«بي بي سي» هو الأكثر جذبا لقراء الأخبار على الإنترنت)؛ تخوض شجارا علنيا مع مدرسة لندن للاقتصاديات والعلوم السياسية، الجامعة التي تأسست عام 1895 بشهرتها وباعها الطويل في عالم الأبراج العاجية حول العالم.

ومثل الـ«بي بي سي»، التي يتجاوز تأثيرها، كمعسكر اليسار الصحافي، الرأي العام إلى المؤسسة السياسية وبقية المجتمع؛ فإن مدرسة لندن للاقتصاديات، كإحدى قلاع اليسار البريطاني، والعالمي، يتجاوز تأثيرها المشهد الأكاديمي إلى صياغة أفكار جيل كامل من ساسة بريطانيا، والعالم.

أبناء جيلي ينتمون لزمن خرجت فيه أكثر الشهادات العليا ورسائل الماجستير والدكتوراه احتراما من مدرسة الدراسات الشرقية والأفريقية في جامعة لندن – ومنها تخرج مشاهير السفراء، وحكام مستعمرات إمبراطورية سطوع الشمس ومندوبوها الساميون، ورؤساء حكومات الكومنولث والعرب قبل وبعد الاستقلال.

جيل ما بعد تصفية الإمبراطوريات حول مدرسة لندن للاقتصاديات إلى موضة الدراسة لأبناء الضباط، الذين سرقوا بالإكراه، أحلام أجيال كفاح الاستقلال في انقلابات عسكرية سموها «ثورات».

تخرج منها جمال مبارك، وسيف الإسلام القذافي (بفضيحة كشفتها الصحافة الحرة في بريطانيا بحصول ابن القذافي على الماجستير بحفنة من رزم البترودولارات)، وزملاؤهما من أبناء جنرالات باكستان وزعماء انقلابات أفريقيا وأميركا اللاتينية.

الندوات العامة فيها ومحاضرات الجمعيات الطلابية «تقدمية»، الاسم الكودي لنشاط يسار ما بعد الماركسية اللينينية (اختلاف في الأسلوب والأزياء ونوع المشروبات، والعطور وكماليات «الاستهلاكية الغربية» كمرحلة لتحقيق الغاية وهي الفقر الشيوعي). وهي مكان التظاهر ضد إرث الإمبراطورية والتعاطف مع (أو اختلاق الأعذار والتبريرات) كل من هو ضد «الإمبريالية الأميركية» حتى لو كان أكثر أشرار القرن إفسادا في الأرض كأسامة بن لادن ومنظر إرهابه أيمن الظواهري.

الخلاف بين قطبي اليسار في عالمي الصحافة والأكاديمية السياسية أثار النقاش حول أخلاقيات مهنة الصحافة، بعد اتهام إدارة الجامعة الـ«بي بي سي» بانتهاك لائحة السلوك المهني الذاتية، والإساءة لسمعة الأكاديميين، وتعريض الطلاب للخطر في رحلة خارجية، وتضييق فرصة الأكاديميين في سعيهم إلى المعرفة حول العالم.

صحافي من الـ«بي بي سي»، اندس وفريقه التلفزيوني بين مجموعة من الطلاب والأكاديميين من مدرسة لندن للاقتصاديات، منتحلا صفة باحث، في رحلة المجموعة إلى كوريا الشمالية، لتصوير (سرا) مشاهد لبرنامج بانوراما. وهو برنامج استقصائي، غالبا ما يرتكز على نظرية المؤامرة (قلدته «الجزيرة» القطرية في برنامج سري للغاية، مع إضافة المبالغات على الطريقة العربية). كوريا الشمالية أكثر الأنظمة الشمولية قسوة وانغلاقا في التاريخ الحديث، ويعيش شعبها في عزلة إذ لا يسمح بدخول الصحف والإنترنت أو الاتصال بالعالم الخارجي. كلها أسباب ساقتها الـ«بي بي سي» لتبرير خدعة دس الصحافيين بين الطلاب، وبدورهم اتهموا الهيئة باستخدامهم «كدروع بشرية».

في السابق قبضت سلطات كوريا الشمالية على صحافيين أجانب متلبسين بممارسة المهنة، ناهيك عن التصوير، وقضوا سنوات في السجن مع الأشغال الشاقة بتهم التجسس وتعريض الأمن القومي للخطر. ولذا اتهم عدد من الطلاب، واتحادهم، وإدارة الجامعة الـ«بي بي سي» بتعريضهم للخطر.

إدارة الجامعة تخشى أن يدفع تصرف الهيئة كثيرا من البلدان إلى رفض زيارات الأكاديميين في المستقبل بعد فقدان الثقة بهم، خاصة بعد تضليل سفارة كوريا الشمالية للحصول على تأشيرة الدخول.

ردت الـ«بي بي سي» برواية ادعاء أن «غالبية الطلاب» عرفوا مقدما باندساس الصحافي، بلا اعتراض. الطلاب يقولون: إنهم لم يعلموا بوجود طاقم تلفزيوني من ثلاثة، إلا بعد تغيير الطائرة في بكين، بعد فوات الأوان. المتحدثة باسم اتحاد الطلاب أشارت إلى أن لائحة الـ«بي بي سي» نفسها تشترط على الصحافيين الحصول على موافقة كتابية موقعة مقدما من الأشخاص المعنيين، وهو ما لم يحدث.

الـ«بي بي سي» قالت: إن للضرورة أحكاما ولذا اكتفت بالموافقة الشفهية للطلاب لأن «أهمية» موضوع التحقيق «للصالح العام» تبرر المرونة في تفسير اللائحة.

تعريف «الصالح العام» مثار خلاف بين يمين الوسط، وأغلب الصحافيين المحترفين في ناحية، وبين اليساريين من ناحية أخرى. اليسار البريطاني تحالف مع مجموعة المشاهير والساسة لتقييد حرية الصحافة بقوة القانون. يمين الوسط يقدس حرية الصحافة رافضا قوانين تنظيمها، فالقوانين العادية كافية لمنع التجاوزات... اليسار يريد احتكار تفسير «الصالح العام» أو ما يجب أن يعرفه عموم الناس، فنشر وثائق مسروقة في «ويكيليكس»، مقبول، أما كشف الفساد الأخلاقي لنجم مشهور (يتخذه المراهقون قدوة)، فيعتبره اليسار تدخلا في الخصوصية.

اليمين والصحافيون المحترفون يلتزمون ببديهية حرية الاختيار، من منطق أن القارئ والمستمع والمتفرج يختار بحرية أن يستهلك إعلاميا ما يهمه ويؤثر على حياته؛ واختياره يحدد أولويات اهتمام الرأي العام.

قبل خلاف زيارة كوريا كانت الـ«بي بي سي»، ومدرسة لندن للاقتصاديات، في انسجام سياسي، في معسكر صروح اليسار كالقناة الرابعة، وصحف «الغارديان» و«الإندبندنت» و«الديلي ميرور»، ومجلة «نيواستستمان».

مفارقة رؤية مخالب الطرفين تمزق عنقي بعضهما البعض تغلبت على مقاومتي إرسال زقزقة على «تويتر»: «ترى ما يكون رد فعل (بي بي سي)، و(الغارديان) ومجموعة الرقابة على الصحف (يتزعمها نجم هوليوود هيو غرانت) لو كان المندس، كذبا، بين الطلاب صحافيا من جريدة (الصن)؟».

هاجمتني زقزقات اليسار لتجرئي على انتهاك المحرمات بمقارنة «الصن» الشعبية (صحيفة الغلابة والطبقة العاملة) بـ«الغارديان»، دليل المثقفين إلى الجهاد المقدس في مسيرة تحقيق يوتوبيا الاشتراكية. ورد أحد زعمائهم المعروفين على زقزقتي بأن «بي بي سي» و«الغارديان» تقومان بتحقيقات «مهمة» من أجل «الصالح العام»، متهما (بنبرة احتقار) «الصن» بالاهتمام فقط «بالأخبار التافهة» (يقصد مشاكل الفقراء كخلاف ربة الأسرة مع الباعة المحليين وارتفاع الأسعار وأخبار النجوم والرياضة والمجتمع).

ظاهرة استعلاء المثقف اليساري لا تقتصر على بريطانيا، بل تلاحظها في مصر والبلدان العربية. سألت سيادة المثقف هل يعني أنه يعرف بالضبط «الصالح العام» بينما ملايين «غير المثقفين» (تبيع صحيفة «الصن» ثلاثة ونصف مليون نسخة بينما لا توزع «الغارديان» عشر العدد) لم يبلغوا بعد الرشد؟

هل نوفر الملايين التي تنفق على الانتخابات، ونسلم زمام الأمور للسادة المثقفين فنحن أبناء الشعب دون مستوى إدراك ما هو «الصالح العام»؟