الشام وإيران.. ونهاية الزمان

TT

في لحظات التحولات السياسية الحادة، وأوقات الكوارث الطبيعية، وتفشي الوباء المهلك، أو استفحال الحرب المبيدة، تغلب لهجة اليأس، وينزاح سلطان العقل والمنطق، ليحل محله سلطان العاطفة والتفكير فيما وراء الممكن، وفيما وراء المشاهَد عيانا.

بكلمة أخرى، تغلب لغة الماوراء على لغة المحسوس المعاين. وهذا النوع من التفكير هو ما يسمى في بعض الثقافات باللحظة (أبوكاليبس)، وهي لفظة ذات أصول يونانية، صارت تعني لحظة نهاية الزمان.

موجودة تقريبا لدى جلّ الحضارات البشرية، حتى من غير أتباع الديانات السماوية، ولكنها تتقدم المشهد وتتأخر بحسب ضغط اللحظة، واختلال الحال.

مثل هذه الظروف التي تمر بها المنطقة العربية، خصوصا منطقة بلاد العراق والشام ومصر، محفزة للتفكير بهذه الطريقة الخلاصية الملحمية النهائية.

من هنا كان التفكير، لدى البعض، بتتابع الزلازل الإيرانية، ورأى فيها من رأى، أن الأمر يتجاوز حدثا طبيعيا إلى حدث دلالي في مؤشراته، وربطه بما يجري في سوريا (بلاد الشام)، وأن ذلك كله يجب تضفير بعضه ببعض في ضفيرة واحدة، لنصل إلى المعركة الكبرى، معركة الشام، و(الطائفة المنصورة)، وفي المقابل، نجد الطرف الشيعي لا يقصر هو الآخر في الغَرف من هذا المعين الملحمي الغيبي - هم أسخى وأكرم في هذا - وتوجيه الحدث باتجاه الخيال الشيعي الخلاصي النهائي. وفي العراق، مثلا، نجد عدة مجموعات وشخصيات تكون ميليشيا وتقيم حيثية دينية وإعلامية وسياسية جديدة، بالتأسيس على منطلق غيبي ديني، أو إشارة لما في مجاميع الأخبار والنصوص الحافلة، مثل فكرة «اليماني»، وغير ذلك من الأفكار.

أتذكر في حرب غزو صدام للكويت في أغسطس (آب) 1990. وتكوّن تحالف دولي بقيادة أميركا، واحتضان السعودية لهذا التحالف، ومشاركتها الفاعلة فيه، لطرد جيش صدام من الكويت، أتذكر كيف اندلعت موجات من الاحتجاجات، بعضها من منطلق «قومي» عروبي، وبعضها يساري، وأكثرها، وهذا هو المهم، من منطلقات الإسلام السياسي، وكان رموز ما يسمى بـ«الصحوة» في السعودية، هم قادة المشهد، وتحدث أمثال الدكتور سفر الحوالي، وغيره، بالكثير تحذيرا وتخويفا من هذا التحالف الدولي، وحقيقة نواياه، وكان الظرف دقيقا وحساسا. ما يرسخ في الذاكرة، الكثير منه مدون الآن في الإنترنت والكتب، هو مداخلات ومقاربات الدكتور سفر الحوالي حول طبيعة الأزمة، حيث اختار أن يلج إلى حدث سياسي ضخم من بوابة الدين والمقدس، واختار بعض النصوص، من مدونة تراثية هائلة، ليسقطها على الواقعة المحددة، واقعة غزو صدام للكويت، وتحدث فيما تحدث عن «غزو الروم» لجزيرة العرب، وأن هذا مذكور في النصوص الدينية، وأن هذا المذكور من النصوص ينطبق تحديدا على ما يجري في الكويت، ليخلص من ذلك كله إلى إدخال المتلقي في جو ملحمي عابر للمنطق والمحسوس، وعليه فكل شيء ممكن، وكل قانون، سابق لهذه اللحظة، فهو لا قيمة له، نحن أمام لحظة خلاصية ملحمية نهائية!

كان مما استند إليه الحوالي آنذاك في محاضراته، الحديث عن الروم، والروم في نظره هم كل أوروبا ومعها أميركا، وربما أستراليا ونيوزيلندا، بصرف النظر عن المعنى التاريخي المحدد للروم «البيزنطيين»، مما قاله الحوالي لحظتها: «الملاحم مع الروم مستمرة إلى قيام الساعة، بل قد أخبر النبي صلَّى الله عليه وسلَّم من حديث عوف بن مالك الأشجعي في صحيح البخاري فقال (اعدد ستا قبل قيام الساعة: أولهن موتي، وهدنة ثم هدنة ثم هدنة، ثم يكون بينكم وبين بني الأصفر فينزلون فيأتونكم تحت ثمانين غاية - أي: راية - تحت كل غاية اثنا عشر ألفا) أي: (تسعمائة وستون ألفا). وفي حديث ضعيف لكن يعتضد بكثرة رواية هذا الحديث وبكونه صحيحا، يقول صلى الله عليه وسلم: «ثم تأتيكم الروم بألف ألف، خمسمائة ألف بالبر، وخمسمائة ألف في البحر».

رغم هذا الحشد من النصوص، حتى الضعيفة منها، باعتراف الشيخ، لم يحدث شيء مما هوّل به، وكل تيار الصحوة معه، ولكن هذا الإخفاق في التوقع، لم يحدث لحظة مراجعة للذات والتفكير، بل تم تجاوز اللحظة، والانشغال بما يليها، بنفس الآليات التحليلية، وبنفس المقاربات، وكأن شيئا لم يكن، وها نحن نرى هذا المنهج الاستنزافي للتراث، لفكرة المقدس، وللتعويل على هيبة الغيب وغموضه، ما زال قائما ومشتغلا في كل الأزمات التي نراها أمامنا، منهج خلاصته دخول على الواقع من بوابة اللاواقع، استغلالا لهيبة المقدس، ودهشة الغيب، واستسهالا للتحليل وهربا من ملامسة المسببات الواقعية «الدنيوية» للحادثة.

هذا المنهج، كما قلنا، ليس خاصا بتيار معين، ولا بحادثة معينة، فمثلا حركة (جهيمان) التي احتلت الحرم المكي 1979 استغلت فكرة «المهدي المنتظر»، وحتى علامات آخر الزمان لتفسير موقفها من الدولة السعودية. ففي بعض رسائل جهيمان، قائد الحركة، نجد حضورا واضحا لفكرة نهاية الزمان، وظهور علامات التأييد الزماني، حيث قال في رسالته (الإمارة والبيعة) بعدما أورد حديث الصحابي عبد الله بن عمر في سنن أبي داود الذي يتحدث عن المعارك التي تقع آخر الزمان وفتنة (الدهيماء) التي لا تدع أحدا إلا لطمته، وأن الناس، بعد ذلك، يصطلحون على رجل كضلع على ورك، قال جهيمان «وفتنة الدهيماء هي التي يصبح فيها الرجل مؤمنا ويمسي كافرا. وهي التي لا تدع أحدا من هذه الأمة إلا لطمته لطمة، وهي التي تكون بعد اصطلاح الناس، مؤمنهم وكافرهم، على هذا الرجل، الذي هو الملك عبد العزيز كما يتبين لك من الحديث، وراجع رسالة الفتن يتضح لك الأمر أكثر».

وغير جهيمان كثير، وصولا إلى رئيس إيران أحمدي نجاد الذي يعتقد أن صاحب الزمان، أي المهدي المنتظر، يسانده، ويرسل له هالات النور المشرق، خصوصا حينما كان يلقي خطابه في منصة الأمم المتحدة.

خارج السياق الإسلامي، لدينا خلفيات نفسية وثقافية من هذا النوع الخلاصي، تقف كمحفزات، خلف بعض الحركات التاريخية، والشخصيات التي غيرت مجرى التاريخ.

مثلا، الحركة التطهرية «البيوريتانية» في أوروبا الغربية، وهي أشد أشكال البروتستانتية تطرفا فيما عرف بالثورة البيوريتانية في إنجلترا في القرن 17. وجدت في العهد القديم مثالا سماويا للحكومة الوطنية، وكانت الدعوة «البيوريتانية الصهيونية» عاصفة خلال القرن الذي أعقب عصر النهضة (1771)، وذلك يعود إلى الحروب الدينية التي جلبت مع عدم الاستقرار الاجتماعي جوا مشبعا بالأفكار الصوفية والتوقعات المتعلقة بـ«نهاية الزمان» بين كافة الطبقات، وفي جميع دول أوروبا. وتشير المصادر التاريخية إلى أن (أوليفر كرومويل) الثائر الإنجليزي الشهير، كان عضوا في هذه الجماعة. (بحث عماد أبو رحمة، نقلا عن أديب ديمتري في كتابه: نفي العقل. مؤسسة عيبال للدراسات والنشر).

بعد قرب نهاية الألف الهجرية الأولى، سرت في بعض الأوساط المسلمة أن نهاية هذا الألف هو نهاية لعمر الأمة كلها، فكان ذلك داعيا لأن يؤلف عالم وفقيه مصري شهير في وقتها، هو جلال الدين السيوطي، كتابا ينقض هذه الفكرة بعنوان: «الكشف عن تجاوز الأمة الألف».

وتكررت نفس فكرة النهاية الألفية، في العالم المسيحي، مع قرب نهاية الألف الميلادية الثانية، كما يذكر من يذكر قبل عدة سنوات.

لجوء الإنسان إلى العالم غير المرئي وغير المحسوس أمامه هو نوع من التعويض النفسي والحماية للذات، لا يجوز التعامل معه كخطاب تحليلي جاد، لكن في نفس الوقت لا يجوز إهمال التعامل مع مثل هذه الخطابات بوصفها حافزا نفسيا وثقافيا لأفعال خطيرة، فكم ارتكبت من كوارث وجرائم باسم المقدسات، سواء من أفراد، أو جماعات، أو دول.

الصراع في مبتدئه ومنتهاه، هو بين البشر، على هذه الأرض، وربما هذا ما لا يجعلهم يقنعون بإبقاء صراعهم على الأرض.

[email protected]