نصف قرن على الطائف

TT

للأفراد أيضا مناسبات. كلما تقدم بنا العمر صارت ذكرياتنا انتقائية. خمسون عاما، أو نصف قرن، إذا شئت، على أول مقابلة صحافية ذات مرتبة لا تزول، في التاريخ الشخصي. لكن الرحلة إلى الطائف، بلاد الرمان والعنب ومزارع الورد، لم تنته فقط بلقاء الملك فيصل بن عبد العزيز، بل بدأت معها صداقات تبعث على الاعتزاز.

كانت الطائف عام 1963 بلدة صغيرة تنعم على علو 2000 متر بالمناخ الطيب. وكان فيها نزل صغير يسمى فندق العزيزية، يحل فيه بعض مسؤولي الدولة وجميع ضيوفها. وفي العزيزية كنت ألتقي كل يوم الدكتور معروف الدواليبي وعلمه الوسيع، وكنعان بك الخطيب وآدابه الرفيعة، وكان يمر بنا في الردهة الضيقة، وزير التشريفات أحمد عبد الوهاب، حامل أختام القصر والأسرار التي لا يفشي منها شيئا.

أحمد زكي اليماني كان يسكن على تلال الهدا في مضرب من الخيام الأنيقة مثل أناقته. لم تكن بيوت الوزراء قد بنيت كلها بعد، حتى بيت أشهر وزير للنفط في العالم، بعد حظر 1973، وكانت شوارع الطائف ضيقة وشبه خالية، و«مقاهيها» على حصر مرتفعة يتربع فوقها روادها، خصوصا اليمنيين منهم.

وللطائف سر في الصداقات التي تبدأ فيها، فهي تبقى مدى الأعمار. وحتى عامه الثاني والتسعين ظل الرئيس الدكتور معروف الدواليبي يبعث إليّ بملاحظاته، مكتوبة بخط يده، غير مملية على أحد. وفي الطائف بدأت أشرف صداقات العمر واستمرت وترقت على إيقاع النبل، كامنا أو مشعا، في الشيخ جميل الحجيلان، الذي كان وزير الإعلام في حكومة الملك فيصل.

كل شهادة لي في الرجل شهادة مجروحة، وكل قول عجز في التعبير. تغيرت مراتبه وتغيرت مواقعه وتغيرت دياري وظلت الرفعة في صداقة جميل الحجيلان واحدة لا يغير فيها شيء. عندما ألتقي أبناءه أو أحفاده في مصادفات هذا العالم، أشعر كأنني عدت إلى منبع المودة في الطائف قبل 50 عاما. هم يسلمون عليّ دون أن أعرفهم وأنا أعانقهم دون أن يعرفوني، لكن الفريقين يعرفان أن أصل المودة هو سيدي وصديقي ورفيقي منذ 50 عاما. وكم تجاوز هذه المراتب، بكل رفعة وتواضع، ليكون معلما أيضا.

آخر مرة ذهبت إلى الطائف كانت عام 1981. وكانت قد أصبحت مدينة كبرت فنادقها وكثرت مبانيها وقلت مزارع الورد فيها. لم يعد فندق العزيزية سوى اسم لمكان. وأسأل صديقي محمد الأسيمر عن بساتين الرمان وكروم العنب فيقول: إن مياه الآبار تجف على نحو مؤسف. وأسأله عن مقاهي الحصر المعلقة فيقول هذا زمان بعيد يا رجل.