العيساوي وعساف

TT

انشغل الفلسطينيون بحدثين لافتين، يندرجان تحت بند الإيجاب.. في زمن تمادى فيه السلب كثيرا وطويلا، والحدثان لا يمتان للسياسة التقليدية بصلة، فهما بعيدان عن مسلسل المصالحة الذي يشبه المسلسلات الأميركية التي جاوزت آلاف الحلقات، وبعيدان كذلك عن جولات كيري، واحتمالات تحقيقها نتائج باهرة أو متواضعة...

إنهما حدثا عساف والعيساوي.

محمد عساف.. أثلج صدور الفلسطينيين بصوته المميز وأدائه المتمكن المتقن، فلقد أحبوه ليس لأنه فلسطيني، يحتم التعصب الوطني الانحياز له، بل لأنه فوق ذلك، صاحب موهبة أصيلة، بهرت كبار فناني العالم العربي، ووضعت الشاب ومن الأغنية الأولى، في مصاف الكبار وليس الواعدين فقط.

كثير من الذين لا يهتمون بالغناء، والبرامج التلفزيونية من النوع الذي أطلق عساف، أفصحوا عن أن هذا الشاب أدخل الفرح إلى قلوبهم، وكأن لسان حالهم يقول: إذا ما عزت الإنجازات السياسية واستحالت، فها نحن حيال إنجاز فني يخفف الكثير من ألمنا وإحساسنا بالخيبة، ويعيد الثقة إلى نفوسنا بالشعب الذي ننتمي إليه، وبقدرة هذا الشعب على إنجاب موهوبين يخترقون الحصارات ويحلقون في فضاء العالم الواسع..

إن المجتمعات الحية والمنتجة، تكرس هويتها بالثقافة والفن وتثبت جدارتها بالحرية والاستقلال من خلال نجاحها في تجميع رصيد متكامل ليس الدم وحده هو كل ما تملك، وإنما كل عناصر الحياة والتقدم وإثبات الوجود.

إنني أشفق على الذين انتقدوا ظاهرة عساف، ونددوا بها، خصوصا حين ربطوها بمعركة تحرير الأسرى، حين قالوا لا لزوم للغناء بل إنه عيب ما دام الاحتلال قائما والأسرى لم يتحرروا بعد.

غير أن اتصال قضية الأسرى بظاهرة الفلسطيني محمد عساف لها وجه حضاري وعمق مشترك.... هو الإبداع، وهنا يعرف لماذا انبهر الفلسطينيون والعرب وأصدقاؤهم في العالم بظاهرة سامر العيساوي ـ هذا الشاب العنيد والقوي والذكي، الذي أخذ على عاتقه لي ذراع الإسرائيليين وكسر إرادتهم المسلحة بالسلطة والتجويع والتعذيب، والقدرة على التفنن في إلحاق الأذى، والقدرة كذلك على المناورة والحرب النفسية، لقد قاوم العيساوي منذ دخوله السجن وحتى الإفراج عنه أول مرة ثم على مدى ثمانية أشهر من الإضراب عن الطعام، مصمما على أن يكسب الحرب القاسية مع سجانيه حتى لو كان ثمن هذا التصميم موتا من الجوع والإعياء.

كان العيساوي وما يزال يخوض معركة الإرادة، ومن وراء جدران الغرف المظلمة الرطبة والضيقة، كان يرى شعبا يتابعه لحظة بلحظة، ويستمد منه ثقة في زمن الخواء والتراجعات والانهيارات، لم يكن في حربه المقدسة، مجرد شخص يسعى لنيل حريته، بل كان يضع أمثولة عظيمة لشعب وأمة، ويؤلف أرقى سيمفونية كفاح وصمود، وأعظم قصيدة وأغنية لوطن وشعب، فإذا به يصبح حديث الكون كله ومحط أنظار عشاق الحرية في كل أرجاء الكون.

لقد عزز العيساوي ثقة شعبه وزملائه الأسرى الذين نجحوا وهم وراء القضبان في فعل ما هو أهم بكثير مما يفعله الطلقاء، فلقد أسسوا وواصلوا ونجحوا في جبهة لا سلاح فيها سوى الإرادة، ولا قدرة لإسرائيل على قمعها وإنهاء دورها وتفادي تأثيرها السياسي والإعلامي والأخلاقي على الكون كله.

لقد أعلن نتنياهو الذي لا يرد رأسه البنتاغون والبيت الأبيض أنه اضطر للموافقة على صفقة العيساوي، خشية أن تندلع انتفاضة جديدة في المناطق، وإني أضع هذا التصريح برسم الساسة التقليديين في عالمنا.. لعلهم يعرفون أن إرادة الأمعاء الخاوية يمكن أن تفعل الكثير، بينما إرادة الطلقاء الواهنة هي من تجعل بمقدور نتنياهو العربدة وفرض الشروط التعجيزية قبل الممكنة.

العيساوي وعساف... صنعا لنا حدثين نزهو بهما، وبالفن الراقي والصمود الذكي... والتفاوض المتقن يمكن أن يصنع الكثير.