دول.. وشعوب

TT

هل من الممكن أن تأكل جبنه كورية أو تشتري ساعة يونانية أو ترتدي ملابس من دور أزياء فيتنامية؟ الإجابة المنطقية هي حتما لا، وذلك بسبب أن هناك شعوبا اكتسبت إرثا وسمعة تراكمية عبر الزمن بأن باتت معروفة بصفات معينة ومجالات محددة، برعت وتألقت وتميزت فيها بشكل مغاير عن غيرها وباتت بالتالي دولا «متخصصة»؛ فالإتقان أصبح مرادفا للألمان في منتجاتهم وخدماتهم والجودة هي سمة مصاحبة لما هو مقدم من قبلهم. والجودة مثلا باتت بصمة أساسية في كل ما يقدم من قبل السويسريين حتى تحولت إلى جزء من الفلكلور والأسطورة ومضرب للمثل، وكذلك الأمر بالنسبة للذوق الفرنسي المعروف الذي أصبح المعيار الأساسي في هذا المجال، وكذلك الشأن في مسألة الأناقة الإيطالية التي تحولت مع مرور الوقت إلى أسلوب قياس ومقارنة مع الآخرين في هذا المجال وبات غيرهم ينافسون ولكن أبدا لا يغلبون. ومؤخرا كان الإبداع التقني الأميركي في مجالات التقنية والطب والاتصالات والطائرات والمقاتلات والفنون بشكل أبهر العالم وأسر خياله، وطبعا هناك مجاميع أخرى أكبر وأصغر نالت نصيبها من التحليل، فـ«الأنغلوساكسونيون» أو الرجل الأبيض الذي استعمر أميركا وكندا وأستراليا وجنوب أفريقيا وهو الخارج من بريطانيا هو اليوم بقايا عرق واحد له قوة تأثير كبرى، وكذلك الأمر بالنسبة للهنود والصينيين في المهجر الذين باتوا يشكلون قوى اقتصادية مذهلة ساهمت بشكل فعال في تقوية حظوظ بلدانهم وفرصها في القوة والانتشار.

وهناك مجاميع متفاوتة الحظوظ لأنها تحاول أن تكون مؤثرة رغم ضعف موطنها الأصلي مثل الأكراد والأرمن وإن كان الأرمن قد أبلوا بلاء حسنا جدا وثبتوا سمعة لا يستهان بها في أذهان العالم.

وهناك الظاهرة القديمة الجديدة وهي اليهود الذين انتشروا حول العالم سواء باندماجهم أو بعزلتهم في «غيتو» داخل المدن ومع ذلك كانت نجاحاتهم أشبه بالأساطير وفي مجالات شتى وبتفوق مذهل تجير المؤامرات ونظرياتها لتفسيرها. نجاحات الدول غير نجاحات الشعوب؛ نجاحات الشعوب يبدو في تفسيراتها أن هناك شعوبا لديها «قدرات» و«مزايا» تفرقها عن غيرها مثل الأفراد، فهناك من هم مولعون بالإبداع وآخرون مولعون بالرياضيات وهكذا، وبشكل مبسط هي الفروقات بين الشعوب. ولكن الدول لا تقيم وتقارن هكذا؛ فالدول السوية تبنى على ثلاثة أطر حقيقية، منظومة قضائية نزيهة تمنح لقوة العدل مقدرة التطبيق بسوية على الجميع لينال فيها الكل حقوقه الواضحة، ومنظومة تعليمية حقيقية تمنح الطالب أهم ما أنتجه العقل البشري من علوم وتمكنه منها ليندمج بشكل سوي في حياة مستقرة، ومنظومة صحية متكاملة تؤمن له العلاج على أعلى مستوى بشكل مخدوم وعصري ولائق بلا مهانة ولا ظلم، ويكون كل ذلك مصاحبا بخدمات وبنى تحتية لائقة. هذه هي أهم العناصر التي تجعل الدول محترمة ولائقة وعصرية، وغير ذلك من المعايير والمقاييس والمؤشرات هي نظريات مادية بحتة تنظر إلى الجانب الرقمي والكمي من المعادلة التنموية لا إلى الجانب النوعي وهذا لعمري هو الأهم والأخطر، فالاقتصاد يساعد على بناء الدولة ولكن المعيار الأخلاقي والنوعي هو الذي يحميها، وهناك فرق شاسع بين النظريتين.

دول قليلة حققت المعادلتين بنجاح مثل كندا وسويسرا ونيوزيلندا وفنلندا والنرويج وسنغافورة وبالتالي تحقق لها وللمواطنين فيها درجات غير مسبوقة من الرضا والطمأنينة. دروس وعبر.