هل في آذانكم وقر؟!

TT

لا أخجل ولا أتعب من أن أردد في كل محفل إذا دعت الحاجة وأقول: إنني ممن يستخف بهم الطرب، ولكن ما كل طرب يطربني، لأنني من هذه الناحية صعب (المراس) جدا، وهذا بالطبع يتوقف على حالتي المزاجية، وبشكل أدق على حالتي العاطفية (الممروعة) أحيانا.

لا تستهويني على الإطلاق الأغاني الحماسية أو الوطنية والأناشيد الدينية التي حشروها في هذه الأيام حشرا بأصوات بعضها مقبول نسبيا وأكثرها من دون أي شك هي من أنكر الأصوات ولا أزيد.

إنني إنسان خلقت وفي أذني اليمنى رنة (عود)، وفي اليسرى سلك (ربابة)، وعلى أرنبة أنفي تحرك عصا (مايسترو) تتحرك.

قارئ لتاريخ الطرب العربي من دون شك ولا ادعاء، ومما قرأته أخيرا عن مغنية مصرية عاشت في القاهرة عام (880) هجرية، واسمها (خديجة الرحابية)، وهي في ذلك الوقت بمثابة (أم كلثوم) في القرن العشرين الميلادي، ومع الأسف أن الإنسانية في ذلك الوقت لم تتوصل إلى اختراع يقال له: التسجيل.

ومما قيل عنها أنها فتاة قمحية اللون، جميلة الشكل، لها إنشاد شجي وصوت يخلب الألباب، ونالت شهرة كبيرة وحظوة لدى أرباب الدولة والنفوذ من رؤساء مصر في تلك الأيام، وقد ذكرها المؤرخ (ابن إياس)، وقال: إن الناس افتتنوا بهذه المغنية ووقع الكثيرون في غرامها ووضعوا الأشعار في التغني بها، من ذلك قول الشاعر:

* رحابية يخفي الشموس جمالها - لها حسن إنشاد يزين مقالها

* وقد خايلت بالبدر ليلة تمه - فما زال من عيني وقلبي خيالها

* وكانت فصيحة اللسان لا تخشى أن تتهكم على من يتحرش بها، فقد كتب إليها (عبد البر بن الشحنة)، مرة شعرا يقول فيه:

* إن تمنعت يا مهاة عن الوصل - فإني والله حلو الوصال

* لست نذلا ولست فظا غليظا - لا ولا في الوجود شيء مثالي

* فاقتطعت الشطر الأخير وأخذت تغنيه وتتهكم على صاحبه وتشهر بسخافته في كل مناسبة.

وقيل إن أميرا من أمراء العرب أعجب بها وتزوجها حينما كان نزيل القاهرة. ولكنه من شدة غيرته وهيامه بها، اشترط عليها أن تعتزل الغناء إلا بحضرته، وله هو دون سواه. فقالت له قولتها الشهيرة: إن الغناء إذا لم يلامس القلوب جميعا ليس له مكان عندي، فنحن لم نخلق للنوم وللبكاء، وإنما خلقنا لشكر الله وللفرح - انتهى.

وطلبت منه الطلاق ورفض، وفي اليوم الثاني ذهبت إلى القاضي وطلبت (الخلع)، وبما أن القاضي والجماهير اشتاقوا إلى غنائها الذي حرموا منه، فقد وافقها على ذلك وطلقها منه بعد أن ردت عليه كل ما أعطاها.

وتقول الرواية: إنها بعد أن عادت أحيت ليلة ولا كل الليالي في حي (الفجالة) تتحدث عنها الركبان، أمام جمع من السيدات والرجال، وكان النيل يغص بمئات من القوارب الممتلئة بأفراد الشعب وهم يحملون المصابيح ويهتفون ويتبارون في إظهار الفرح والسرور - انتهى.

هكذا هي مصر كانت قبل (554) سنة هجرية خلت، ولم يكن وقتها فيها لا (مبارك)، ولا (مرسي)، (ولا يحزنون).

(يا هوه) يا ناس، ألا تقرأون، ألا تسمعون، ألا تطربون؟! هل في آذانكم وقر؟!

[email protected]