لماذا يتمسك أردوغان بزيارة غزة؟

TT

الفرصة الضعيفة التي كان وزير الخارجية الأميركي، جون كيري، يملكها أثناء وجوده للمرة الثالثة في تركيا خلال 3 أشهر وفرط فيها، هي محاولة التنسيق مع الرئيس الفلسطيني، محمود عباس، الذي كان موجودا في إسطنبول وقتها، باتجاه إقناع رجب طيب أردوغان عنيد «قاسم باشا» في إلغاء زيارته المعلنة إلى قطاع غزة.

أردوغان لم يكتف بتجاهل كل هذه التوصيات، بل أوعز إلى أحد أقرب معاونيه بولند أرنش بالرد على هذا الطلب الأميركي «غير المقبول دبلوماسيا»، خصوصا عندما يتحدث كيري عن وقت حرج تمر به المنطقة وظروف غير ملائمة لتحرك من هذا النوع. «أنقرة هي التي تقرر متى وكيف وإلى أين تذهب قياداتها. لن نقبل النصائح من أحد حتى ولو كانوا أقرب الأصدقاء. ومتى كانت الظروف ملائمة في القطاع؟ الزيارة هي خطوة على طريق تأمين هذه الظروف».

تركيا أغضبها أكثر أن يحضر وزير الخارجية الأميركي على عجل لترجمة مواقف الرئيس الأميركي أوباما في التوسط بين تركيا وإسرائيل، لكنه جاء يردد ما تقوله تل أبيب وهو يعرف مسبقا استحالة قبول تركيا به طالما أنها وضعت مسألة رفع الحصار عن غزة على رأس شروطها للمصالحة مع تل أبيب، فهل من المحتمل أن تتخلى حكومة «العدالة والتنمية»، وبمثل هذه البساطة، عن مطلبها هذا؟

قد يفوت كيري ونتنياهو أن أردوغان هو الذي كان بين اللاعبين الأساسيين في موضوع إعلان الدولة الفلسطينية والتصويت لها في الأمم المتحدة والتلويح بورقة الجنائية الدولية ضد إسرائيل، ويفوتهما أيضا أن أردوغان، من خلال هذه الزيارة، قد يفتح لهما الطريق أمام حوار إقليمي جديد، لكن لن يفوتهما أن أردوغان هو الذي سيدفع الثمن السياسي المكلف في الداخل والخارج عند التراجع عن زيارة يريدها كثيرا دون الحصول على ضمانات وبدائل سياسية ودبلوماسية لا تقل عنها قوة وأهمية.

الزيارة بمثابة «علبة السبانخ» التي تبحث عنها حكومة أردوغان في مثل هذه الظروف الصعبة التي تمر بها استراتيجياتها إقليميا بسبب الضربات المتلاحقة التي تعرقل سياساتها في المنطقة.

تل أبيب تحاول استرداد بعض النقاط التي فقدتها في أعقاب الاعتذار الرسمي المقدم لأنقرة عبر تعطيل أو تجميد المطلب الثالث لأردوغان، معلنة أن موضوع الحصار على غزة مسألة لها علاقة مباشرة بالأمن القومي الإسرائيلي وهي لن تتردد في التصعيد ضد القطاع عندما تفرض مصلحة إسرائيل ذلك، لكنها تعرف أيضا أن الشروط التركية متداخلة متشابكة لا يمكن الفصل بينها، وأن الثمن الذي تدفعه حكومة نتنياهو لا يمكن التعويض عنه بهذه الطريقة، فهي تراجعت عن كل التقارير الأممية التي بررت لها الاعتداء على «أسطول الحرية»، وتخلت عن دعم قانوني ودبلوماسي قوي قدم لها في هذا المجال، وأن أفضل ما يمكن أن تفعله بعد هذه الساعة هو الهروب إلى الأمام عبر استغلال هذه الفرصة التي تقدمها لها أنقرة بمراجعة مواقفها وسياساتها الفلسطينية والإقليمية.

التفاوض حول حجم التعويضات وطريقة دفعها، مسألة ثانوية بالنسبة لأردوغان، الذي سيكون أفضل ما يقدمه للإسرائيليين بعد الآن هو إقناع منظمة الإغاثة التركية بالتعاون وفتح الطريق أمام الحكومة التركية لمفاوضة الإسرائيليين على إنهاء الحصار في غزة عبر سحب دعاواها الشخصية ضد الجنود والضباط الإسرائيليين الذين شاركوا، بشكل أو بآخر، في خطة الهجوم على «أسطول الحرية».

فهل يطالب أردوغان قيادات حماس نفسها بدعمه في التأثير على الجمعيات والهيئات المدنية والإنسانية التي دخلت في مواجهة مفتوحة مع إسرائيل قانونيا ودبلوماسيا وإعلاميا، لمنحه الوقت والفرص التي يريدها؟

قد يكون أردوغان قبل إرجاء زيارته إلى غزة، التي كانت مقررة في النصف الثاني من الشهر الماضي بناء على طلب شخصي من الرئيس الأميركي، بانتظار معرفة نتائج لقاء واشنطن بعد أسبوعين، لكن المؤكد أن رئيس الوزراء التركي سيتمسك بمواقفه حتى النهاية، وستكون مهمة الرئيس الأميركي أوباما شبه مستحيلة خلال استقباله الضيف التركي في محاولة لإقناعه بالتخلي عن زيارة القطاع الذي ينتظره على أحر من الجمر.

لم يبق بين أيدينا سوى الاكتفاء برسم السيناريوهات، وطرح الفرضيات أو التمنيات حتى أواخر شهر مايو (أيار)، التي قد يكون أبرزها نجاح أردوغان في إقناع الرئيس الأميركي بمرافقته إلى غزة، تعقبها زيارة مماثلة إلى الضفة الغربية، في مفاجأة قد تتحول إلى خطوة ثمينة على طريق إقناع الجميع ببدء صفحة تحمل الكثير من التفاؤل في موضوع الصراع العربي - الإسرائيلي، أو إقناع الرئيس الفلسطيني عباس نفسه باصطحابه معه إلى القطاع لتكون فرصة جديدة في تسريع وإنجاز المصالحة الفلسطينية - الفلسطينية، يعقبها لقاء آخر في الضفة بحضور أميركي يدغدغ مخيلة القيادات الإسرائيلية إذا ما كانت راغبة حقا في الحصول على لحظة تاريخية أخرى باتجاه دفع عملية السلام في المنطقة. وأضعف الإيمان، ربما، هو أن يتراجع أردوغان عن الزيارة بعد تعهدات أميركية - إسرائيلية جديدة بتحقيق مطلب رفع الحصار عن القطاع، والتزام شرط فتح المعابر وتسهيل حركة التنقل أمام الغزاويين. من أين جاء هذا الدبور اللعين الذي أيقظنا من الحلم بهذه الفظاظة!