العراق ما بعد الحويجة

TT

لقد جرّت المواجهة المستمرة منذ أشهر في العراق بين المحتجين العرب السُنة والحكومة المركزية البلاد باتجاه انحدار خطير. وتتمثل المخاطرة الكبرى في نشوء هلال من عدم الاستقرار والصراع يربط لبنان وسوريا والعراق تغذيهما الطائفية والتحالفات العابرة للحدود.

في 23 أبريل (نيسان) الماضي، قتل 50 شخصا وجرح أكثر من 110 أشخاص عندما هاجمت قوات الأمن اعتصاما في بلدة الحويجة في محافظة كركوك. وفي حين أن بغداد جادلت بأن عمليات القمع التي قامت بها يبررها رفض المتظاهرين تسليم الأسلحة والأشخاص الضالعين في هجوم سابق على نقطة تفتيش تابعة للجيش، فإن الرد غير المتناسب أثار غضبا متوقعا بين المحتجين، وقد تسبب هجمات انتقامية ضد أجهزة الأمن برد فعل أكثر شدة من السلطات. وحدها الاستجابة ذات المصداقية لمطالب المحتجين المشروعة المتمثلة في ضمان التمثيل السني الحقيقي في النظام السياسي يمكن أن تضمن للحكومة عدم بقاء القيادة السنية العربية الحالية رهينة شارع ينتابه الإحباط على نحو متزايد أو عدم تخلي هذا الشارع عنها على نحو تدريجي. ووحده القيام بذلك يمكن أن يمكن العراق من القضاء على المد المتصاعد لحالة العنف الذي يمكن أن ينذر بكارثة، لا سيما في وقت يسوده الاستقطاب الطائفي المتنامي في سائر أنحاء المنطقة.

تمثل حركة الاحتجاج الشعبية الآخذة في التنامي منذ أواخر عام 2012 في المناطق ذات الأغلبية السنية مؤشرا على الشعور السائد بالحرمان من الحقوق والتمثيل؛ إذ يشعر المتظاهرون بأنهم باتوا غرباء عن بغداد التي ينظرون إليها على أنها مركز القوة الشيعية الجديدة، وعن الأشخاص الذين يفترض أن يكونوا ممثليهم والذين يتهمونهم بالمحافظة على مصالحهم الضيقة على حساب الناس الذين انتخبوهم، وغرباء عن قوات الأمن المتهمة بارتكاب انتهاكات لحقوق الإنسان على أساس طائفي. كما تلعب الحرب في سوريا دورا هاما، فمع تصاعد حدة الصراع، يشعر العرب السنة بتضامن متنامٍ مع أشقائهم في البلد المجاور ويشاطرونهم شعورا بالعداء حيال ما يتم تصويره على أنه محور شيعي يربط حزب الله ودمشق وبغداد وطهران. سرعان ما راهن زعماء القبائل العربية السنية، والقادة الدينيون والسياسيون، على المحتجين في القواعد الشعبية وسعوا لجني المكاسب السياسية، وسرعان ما تبعهم في ذلك بقايا النظام القديم والجماعات المسلحة التي ظهرت وانتشرت بعد أن كانت قد انتهت.

حتى وقت قريب، كان كلا الطرفين قد أظهر ضبطا نسبيا للنفس؛ إذ ظلت الحركة الاحتجاجية التي خشيت من التصعيد المكلف سلمية إلى حد بعيد، فيما تبنت الحكومة استراتيجية احتواء حكيمة. قبل أحداث الحويجة، اصطدمت قوات الأمن بالمتظاهرين في مناسبتين؛ في الفلوجة في 25 يناير (كانون الثاني)، وفي الموصل في 8 مارس (آذار) مما أدى إلى مصرع سبعة أشخاص في الحادثة الأولى وشخص في الحادثة الثانية. وقامت السلطات في نفس الوقت بتوجيه التفاتات سياسية ثانوية لتنفيس الغضب والاحتقان وتقسيم المعارضة شملت إطلاق سراح السجناء ومنح المعاشات التقاعدية للأشخاص الذين عملوا مع النظام السابق. وراهنت السلطات على أن الناس سيكلون من التظاهر وأن هؤلاء الذين نصّبوا أنفسهم قاعدة للمتظاهرين سيقفزون من السفينة ويعودون إلى مغازلة رئيس الحكومة المالكي بحثا عن مكاسب شخصية.

إلا أن الحكومة لجأت أيضا إلى تكتيكات أخرى أكثر خطورة، حيث حاولت حشد الدعم بالادعاء بأن المتظاهرين ترعاهم تركيا ودول الخليج، وأن بينهم إرهابيين ينتمون إلى حزب البعث السابق أو أنهم مدفوعون بالعداء الطائفي وحده. وقد كانت النتيجة تحول الطائفة الشيعية نحو قدر أكبر من الراديكالية، حيث يعد الكثير من أفرادها حاليا هذا التحدي للوضع الراهن تهديدا وجوديا. قد يكون هذا، مصحوبا بتوسع وزيادة قوة الأجهزة الأمنية، قد أقنع الحكومة بأن بوسعها القضاء على الحركة الشعبية جسديا دون أن يترتب عليها القضاء عليها سياسيا.

وجاءت عملية الحويجة مؤشرا على ذلك؛ إذ يبدو أن الهدف من تلك العملية الواسعة النطاق التي يبدو أنه خطط لها بشكل جيد، هو إقناع المتظاهرين بعدم اللجوء إلى العنف وذلك بتوجيه ضربات قوية ومباشرة لهم. إذا كانت هذه هي النظرية التي عملت السلطات على أساسها، فإن تصاعد الهجمات الانتقامية قد أثبت أن ثمة مواطن خلل عميقة تشوبها. في حلقة ناشئة من العنف، فإن المحتجين الذين توقعوا المزيد من الهجمات من قبل قوات الحكومة، هددوا بتحضير أنفسهم لمقاومة عسكرية أكثر قوة.

وتتمثل المهمة الأكثر إلحاحا اليوم في إخماد لهيب النار، ويقع عبء ذلك على الحكومة. ومن بين الخطوات الملحة التي ينبغي أن تتخذها سحب قواتها الأمنية من ساحة الحويجة حيث تم تنظيم الاعتصام، والتفاوض مع سلطات كركوك على التعويض عن سقوط ضحايا، والإحجام عن اتخاذ خطوات استفزازية كالغارات والاعتقالات الواسعة النطاق وحالات حظر التجول، إضافة إلى الامتناع عن نشر المزيد من قوات الأمن في المحافظات التي تشهد احتجاجات، وتعزيز التعاون بين قوات الأمن الوطني والشرطة المحلية بحيث يمكن للشرطة المحلية أن تحفظ الأمن.

كما أن من الضروري اتخاذ خطوات سياسية لمعالجة المظالم الكامنة وراء هذه الاحتجاجات. لن تكون التنازلات الأحادية والمجزّأة كافية، بل لا بد من مفاوضات ذات معنى مع الحركة الاحتجاجية بشأن قانون العدالة والمساءلة الذي يعتبره السنة تمييزيا، والتشريعات المتعلقة بمكافحة الإرهاب، وتركيبة القوى الأمنية. بالمقابل، فإن هذا يتطلب تهيئة الظروف المناسبة لنشوء قيادة تمثيلية بشكل حقيقي في المحافظات التي يقطنها العرب السُنة. لقد تم تأجيل الانتخابات المحلية في محافظتي الأنبار ونينوى وتم تحديد موعد لاحق لها في يوليو (تموز). ينبغي أن تجرى هذه الانتخابات في أقرب وقت ممكن ومن دون أي تدخل من قبل الحكومة. إن الفشل في إدماج العرب السنة في نظام سياسي تمثيلي حقيقي في بغداد يخاطر بتحويل الأزمة الداخلية العراقية إلى صراع إقليمي أوسع.

إذا أريد لحدة العنف أن تتراجع وللمفاوضات أن تبدأ، فإن المسؤولية تقع على عاتق المتظاهرين أيضا؛ إذ إن العمليات العدوانية ضد قوات الأمن الحكومية ستؤدي إلى نتائج عكسية وأثر عكسي، ينبغي على الشخصيات الدينية المؤثرة وزعماء العشائر أن يصروا على التسوية السلمية وأن يحثوا على عدم اللجوء إلى العنف. في نفس الوقت، ثمة جهود مطلوبة لإنتاج قيادة أكثر تماسكا ووحدة في جميع المحافظات ذات الصلة والتي يمكن أن تتفاوض بشكل يتسم بالمصداقية مع الحكومة.

قد يشجع الإخفاق في معالجة المخاوف والمظالم المشروعة للسكان السنة في العراق بعض الفصائل الأكثر ضلوعا في الحركة الاحتجاجية على تعزيز علاقاتها مع لاعبين إقليميين يدعمون المعارضة السورية، مما سيدفع الحكومة إلى توثيق تحالفها مع النظام السوري. وعلى الرغم من أن وقف النزعة الكلية لهذه الاحتجاجات يتجاوز قدرة ونطاق أي حكومة بمفردها، فإن المالكي قدّم نفسه حتى الآن على أنه رجل الدولة الأول في البلاد المصمم على حماية وحدتها والمستعد للتصدي حتى لو تتطلب ذلك تحدي قاعدته الانتخابية. اليوم أكثر إلحاحا من أي وقت مضى لتتطابق فيه أفعاله مع أقواله.

* ماريا فانتابي محللة في شؤون العراق في مجموعة الأزمات الدولية في حين يدير بيتر هارلنغ مشروع العراق وسوريا ولبنان