أمر ما يعجز المغاربة عن إدراكه

TT

أود في حديثي اليوم أن أتحدث عن المغاربة لا عن المغرب، وإن كان التمييز بينهما مستحيلا في الواقع، وإن كان يتعذر عليّ تحديدا أن أفصل بين الأمرين. بيد أني أحاول ذلك من حيث إنني أقصد بهذا التمييز المتعذر أن أعلن انتمائي من حيث الهوية والثقافة إلى هذه المجموعة المنسجمة التي تعيش فوق رقعة جغرافية محددة، تتوافر لها حدود قارة معلومة ومعترف بها دوليا، وتتمتع بالسيادة كاملة فوق تلك الرقعة الجغرافية على نحو ما تحدد ذلك القوانين الدولية والأعراف العالمية. وإذ أقول إنني أتحدث عن «المغاربة»، فدلالة قولي أنني لا أتحدث عن الدولة، ولست أصدر فيما أقول وأزعم عن الدولة. فأولا، ليست لي صفة معلومة تسمح لي بالحديث باسم الدولة المغربية، وثانيا لست أريد أن يتصل كلامي بما يمكن أن يعتبر ذا صلة بمنطق الدولة وبما تقرر أنه مقبول أو مرفوض، وثالثا لأنني، بكيفية بسيطة ومباشرة وواعية بذاتها على وجه أخص، أصدر عن هذه الهوية الثقافية التي لمحت إليها بالإشارة قبل قليل. وإذن، فإنني أجيز لنفسي القول إنني أتحدث بصفتي عضوا في هذه المجموعة التي تنتسب إلى المغرب روحا وثقافة وتطلعا إلى مستقبل مشترك، يظل الأمل دوما أن يكون حفاظا على ما في الحاضر من عناصر قوة وتماسك وإشراق، وبالتالي مبعثا للاعتزاز، ومجاوزة لما كان سلبا وضعفا أو مدعاة للإخلال بشرط التماسك والانسجام: الشرطان الضروريان لكل اجتماع بشري مرغوب فيه، والعلامتان الواضحتان في كل فعل إرادي مفكر فيه.

بيد أن منطق الحال، منطق الحديث عن المغاربة وعن الهوية الثقافية التي أجد أن المغاربة ينتسبون إليها، يقتضي مني - قبل الخوض فيما أجد المغاربة يعجزون عن إدراكه - أن أستحضر المقومات الأساس والعناصر الكبرى التي تدخل في مكونات هذه الهوية التي أشير إليها. هي مقومات بسيطة وعناصر واضحة أشد ما يكون الوضوح، إنني أزعم أنها بسيطة بساطة الهوية المغربية في وحدتها وفي اجتماع العناصر المكونة لها. أول المقومات؛ الإسلام: الإسلام السني الواحد، وعلامة الوحدة الاجتماع حول المذهب المالكي (اجتماع اختاره المغاربة لأسباب، تظل الشروح التي يقدمها ابن خلدون مقنعة ومقبولة معا) من جهة المذهب الفقهي، والالتقاء عند النظر الأشعري من جهة العقيدة. وثاني المقومات: العروبة من جانب أول والأمازيغية من جانب ثان. وثالث المقومات: الانتساب إلى القارة الأفريقية من جانب أول وإلى المجموعة المتوسطية من جانب ثان.

فأما ما يكون المغاربة في حال من العجز عن إدراكه، فهو قبول الانفكاك من هذه المكونات الواضحة والبسيطة التي اتصلت في تاريخ المغرب أربعة عشر قرنا ونيفا. من ذلك مثلا، أن يفهم المغربي البسيط (رجل الشارع، كما في القول الفرنسي المأثور) كيف أن المغربي يغدو شيعيا أو منتسبا إلى الدائرة الشيعية دون أن يخدش ذلك في «هويته» ودون أن يجعله في حال من الغربة. ومن ذلك مثلا، أن يرى المغربي في الإسلام، انتسابا، إثنية معينة هي الإثنية العربية، وليس إلى منظومة من العقائد تنتظم في ديانة واحدة تعلو على رابطة اللغة والإثنية ولون البشرة. ومن ذلك، ثالثا وأخيرا، أن هذا المغربي البسيط لا يملك القدرة على فهم النزعات التي تنحو، بكيفية أو أخرى، إلى الإساءة إلى ما تقرر عنده، وعاش بموجبه أحقابا من الزمن يقبل النيل من وحدة جغرافية وترابية ما عرفت التهديد الفعلي لها - طيلة أربعة عشر قرنا - سوى فترة الاستعمارين الفرنسي والإسباني لمدة أربع وأربعين سنة، لا، بل إن الاستعمار ذاته كان «حماية» تقرر فيها الوجود التاريخي والشرعي للمغرب محفوظا وإن كان، بطبيعة الأمر وبموجب منطق الاحتلال، استعمارا وإلغاء للسيادة الوطنية. ربما وجب التذكير في هذا المقام بحقيقة تاريخية بسيطة في ذاتها، غير أن دلالاتها الثقافية والاجتماعية عميقة الغور بعيدة المدى: إن المغرب هو إحدى المناطق العربية القليلة التي لم تعرف الخضوع البتة للهيمنة العثمانية - وإذا استوجب الأمر تحديدا بالسلب للهوية المغربية، صح القول إن المغرب بلد عربي لم يشمله النفوذ العثماني يوما واحدا في حياته.

ما يعجز المغاربة عن إدراكه، وأكاد أقول طبعا، لا انفعالا بما تقتضيه السياسة وما يتصل بها، هو هذا الموقف الذي ينفرد به النظام الجزائري، في موقفه من المغرب، في أمر كان فيه إجماع المغاربة تاما مطلقا. أمر ينفرد فيه النظام الجزائري عن مجموع الدول العربية، ويشذ فيه عما يراه المنتظم الدولي بموجب ما تصدره الأمم المتحدة من قرارات صريحة واضحة، يعلن المغرب الرسمي التزامه بها وتعلن الأحزاب السياسية المغربية - أيا كانت مواقعها في المعارضة أو الموالاة - تأييدها الواضح والعلني لها، وتصدر منظمات المجتمع المدني، على اختلاف مشاربها، الاجتماع حولها. موقف غريب ومثير فعلا، متى حكمنا بمنطق التاريخ والجوار: فمن نافلة القول الحديث عن تفاعل وتداخل في القرابة والمصاهرة، والالتقاء في المقومات والعناصر الأساس التي تدخل في تركيب كل من الهويتين المغربية والجزائرية. لست أتحدث عن المصالح الحيوية المشتركة التي تتصل بالأمن والتجارة والفلاحة والاقتصاد في عمومه، كما تتصل بالساحة والقرب الشديد من أوروبا، ولست أتحدث عن السوق المغاربية، فلست أحسن ذلك القول... ولكنني أنطق بما أجد الوجدان ينفعل به في المغرب والجزائر معا، من استهجان لهذا الإصرار على جعل الحدود مقفلة في أوجه المواطنين المغاربة والجزائريين، والحال أنه لا حدود نفسية ولا ثقافية هناك. لعلي أكتفي بذكر مثال شعبي بالغ الدلالة: كلما جعلت مباريات كرة القدم التقابل بين الفريق الوطني الجزائري وغيره من الفرق الأخرى في العالم (بما في ذلك الفرق العربية)، فإن جماهير كرة القدم في المغرب، مشدودة أمام شاشات التلفزة، تهتف نصرة واستحسانا للفريق الجزائري دون غيره، إلا أن يكون الأمر، بطبيعة الأمر، بمقابلة تجمع الفريقين المغربي والجزائري.

كتبت في هذا المنبر، قبل بضع سنوات، أدعو إلى استفتاء وطني في الجزائر حول ما إذا كان الشعب الجزائري يحبذ استمرار الحدود الأرضية المغربية - الجزائرية مقفلة أم أنه يريد إعادة فتحها. ولعلي، في خاتمة هذا الحديث لا أجد قولا أفضل من تكرار المطالبة المغربية السابقة. أما ثقتي بجواب يؤكد وجوب المبادرة إلى رفع الحواجز الانفعالية فلا حدود لها.