ملامح «القطاف الإقليمي» بين المحيط والخليج

TT

كأننا من المحيط إلى الخليج، أو من ضفاف المتوسط في لبنان وسوريا وإسرائيل إلى ضفاف الأطلسي في الديار المغاربية مرورا بضفاف الأحمر بين الأردن ومصر والسودان وضفاف الخليج باباً ومضيقاً، على موعد مع «القطاف الإقليمي»، أو مع «الصيف الإقليمي»، نظيرا، بطبعة مختلفة، «الربيع العربي». وإلا فما معنى هذا السيناريو المتعدد المشاهد الذي يحدث تزامنا مع دخول المحنة السورية سنتها الثالثة.

ما معنى أن يزور الرئيس أوباما إسرائيل يوم 20 مارس (آذار) 2013 ثم في اليوم التالي مقر السلطة الوطنية الفلسطينية في رام الله، فيقول كلاما نصوحا أمام جيل الشباب من اليهود، كلاما موجّها في الواقع إلى رئيس وزراء إسرائيل بنيامين نتنياهو وغلاة التشدد. وما قاله الرئيس أوباما كموقف وكنصيحة لليهود الشباب هو: «أعلم أن هناك عناصر فلسطينية إرهابية تريد دمار إسرائيل، ولكن غالبية الشعب الفلسطيني تريد السلام، وإسرائيل مجبرة على الاعتراف بحق الشعب الفلسطيني في تقرير المصير والعدالة. ضعوا أنفسكم مكان الفلسطينيين. انظروا إلى العالم بأعين الفلسطينيين، ليس من العدل ألا تستطيع طفلة فلسطينية أن تنمو في دولة مستقلة لها، لا يجوز أن تعيش طفلة كهذه في ظل احتلال لجيش أجنبي يتحكم في حياتها وحركتها هي وأفراد عائلتها. إن السلام ممكن، وأنتم الشباب تتحملون مسؤولية في ذلك». وبعد هذه الموعظة يؤدي أوباما أمام أهل السلطة الفلسطينية موعظة أخرى جاء فيها من الكلام الذي لا يسمن للتو من جوع الفلسطينيين إلى الحل الذي يأملونه، وهو إتباع خطوة الدولة غير المكتملة العضوية في الأمم المتحدة، أي «الدولة المراقب» فقط، بخطوة إعلان قيام دولة فلسطين. وبدل أن يشيع بعض التفاؤل في نفوس أهل السلطة، فإنه قال: «يمكن التوصل إلى حل على أساس الدولتين إذا تمكّنا من الوصول إلى مفاوضات مباشرة وأن نبدأ هذه المفاوضات، وأعتقد أن شكل الصفقة موجود، والعالم كله سيدعم ذلك. نريد تحقيق الاستقرار والسيادة والأمن والسلام للشعبين الفلسطيني والإسرائيلي. هذا هو لب الموضوع، وإذا قمنا بحل ذلك فإن مشكلة الاستيطان ستنتهي. لا نريد أن نضع العربة أمام الحصان؛ نريد أن نتأكد من أننا نصل إلى القضايا الحقيقية والرئيسة لأجل إعادة بناء الثقة».

ذلك كان جوهر رؤية الرئيس أوباما عندما زار إسرائيل ومقر السلطة الوطنية في رام الله، الذي سبق أن زاره كعضو في مجلس الشيوخ في يناير (كانون الثاني) 2006. والفرق كبير بين قدرة «أوباما السيناتور» قبل 7 سنوات، وقدرة «أوباما الرئيس» المتطلع، لا شك في ذلك، إلى دور تاريخي يكمل فيه دور الرئيس (الديمقراطي) الآخر جيمي كارتر. ولا يقلل من إيحاءات الرئيس أوباما الواردة بكثير من الوضوح في كلامه الذي أوردنا فقرات منه؛ أن الرئيس الفلسطيني محمود عباس، المتطلع إلى تسجيل اسمه في صفحة قيام دولة فلسطين «المتصلة» بـ«دولة إسرائيل»، وعلى نحو ما آلت إليه دولتا السودان بعد استقلال جنوبه برضا «إنقاذ شماله»، رد بلغة المنطق على موعظة أوباما، فقال مخاطبا الرئيس الأميركي: «لم نتخلّ عن رؤيتنا، لكننا نرى أن الاستيطان غير شرعي. لسنا وحدنا من يقول إن الاستيطان غير شرعي، بل إنه صدر عن مجلس الأمن 13 قرارا تطالب باجتثاث الاستيطان. نحن لا نطالب بشيء خارج إطار الشرعية الدولية، نريد أن تُوقف النشاطات الاستيطانية لنتكلم عن القضايا، ومن ثم عندما نحدد حدودنا يعرف كل منا أرضه التي يعمل فيها ما يريد».

بعد هذه الزيارة التي أعقبتها مهمة قام بها وزير الخارجية جون كيري، فجولة قام بها وزير الدفاع تشاك هيغل، وشملت، إلى جانب إسرائيل، مصر والسعودية ودولة الإمارات، عفا رئيس الوزراء التركي أردوغان عما سلف من جانب إسرائيل، وتزايدت الحمم البشّارية ضد المنتفضين على نظامه، واختلط الحابل السوري العلماني بالنابل الإسلاموي، بحيث باتت ظاهرة «النصراويين» حطبا يُرمى في أتون المحرقة السورية، وفي الوقت نفسه تراجعت الهمة الدولية التي عقد المنتفضون الآمال عليها، ثم دخل «حزب الله» الميدان السوري في سابقة ألقت ظلالا على عقيدته وتاريخه. وفي الوقت نفسه، بدأت كرة النار المذهبية تتدحرج على الأرض العراقية، الأمر الذي جعل أهل الحكم الإيراني الحائر في أمر من سيخلف محمود أحمدي نجاد رئيسا للبلاد يخططون لمواجهة فقدانهم العراق بقبضة نوري المالكي، رافعين منسوب التهديد بتدمير تل أبيب في حال نفذت إسرائيل مخطط تدمير البرنامج النووي العسكري. وتزامن ذلك مع مخاوف جدية في دول الخليج نشأت بعد الزلزال الذي شملت اهتزازاته بدرجات أقل شرق السعودية ودبي، وحذر أهل الخبرة العلمية من احتمال حدوث «تشرنوبل إيرانية» تلوث البيئة زراعة ومياها، وهكذا، فإن النووي الإيراني في نظر الخليجيين كارثة إذا جرى استعماله، و«أبو المصائب» إذا هو انفجر بفعل زلزال. كما أنه عنصر إقلاق وتهديد لمجرد استكمال مشروع امتلاك إيران لقنابل ذرية صغيرة.

هذه الوقائع وغيرها، وكذلك الكم الهائل من التصريحات، تجعل مراقبا متابعا لأحوال المنطقة مثل حالي يربط هذا كله بالزيارة التي قام بها الرئيس أوباما في مارس 2013 إلى فلسطين بجناحيها؛ الجناح المغتصَب للعقد السادس على التوالي من جانب الصهيونية، والجناح المحتل من جانب إسرائيل للعقد الرابع على التوالي، ومن دون أن تفيد مبادرة الرئيس الراحل أنور السادات في شيء. فالرئيس أوباما يراهن على الجيل الشاب في إسرائيل أن ينتفض من أجل السلام، وهذا واضح في فقرات كلامه الذي قاله أمام شبان لا ينتمون إلى جيل المؤسسين قادة العصابات مثل «شتيرن»، ذلك أن هؤلاء إلى اندثار ومن دون أن يتحقق الأمن لإسرائيل. كما أن حرص أوباما أن تكون زيارته الأولى في ولايته الرئاسية الثانية لفلسطين بجناحيها «فلسطين المغتصَبة» و«فلسطين المحتلة»، ومن دون أن تشمل دولا أخرى في المنطقة، مؤشرا إلى أنه ينوي حلا، وأن ما أعقب الزيارة من أحداث وتطورات يرسم في المشهد أمامنا ملامح «القِطاف الإقليمي» أو «الصيف الإقليمي» الذي، واستنادا إلى قول وزير الدفاع الأميركي تشاك هيغل، وهو في الطائرة قبل هبوطها في مطار تل أبيب، يوم الأحد 21 مارس 2013 للصحافيين المرافقين له في جولته «إن إسرائيل والولايات المتحدة على توافُق تام في رؤية الخطر من التسلح الإيراني النووي، ولكنهما على خلاف في وجهتي النظر بشأن الجدول الزمني لتطوير الخبرة النووية الإيرانية، وتوقيت توجيه ضربة عسكرية. ثم إن إسرائيل لا تحتاج إلى موافقة أميركية عند اتخاذها قرار توجيه ضربة عسكرية لإيران، وكيف تكون هذه الضربة». وهذا الكلام يعزز ملامح «الصيف الإقليمي» الوارد كاحتمال حدوثه، ويتلخص في أن إسرائيل ستحرج إيران، وذلك من خلال استهداف لبرنامجها النووي العسكري، وأن إيران تنفيذا من جانبها لتهديداتها ستحرج إسرائيل، من خلال رد مماثل يستهدف بعض مدنها. وهنا تدخل أميركا وأوروبا وكذلك روسيا والصين على الخط، كون هذه الدول مع بقاء إسرائيل دولة كاملة الاعتراف بها، فتضع حدا للمغامرتين اللتين ستنتهيان بأن تنكفئ إيران وتنشغل بأمورها، فلا تصدير ولا تهديد ولا أعماق مسلحة في لبنان والعراق واليمن، أي لا تعود إيران ما قبل الضربة، وأن ترتدع إسرائيل وتصبح كما رسم ملامحها الرئيس أوباما عندما التقى رموزا شبابية خلال زيارته، أي إسرائيل التي تتعايش مع الآخرين في المنطقة، وتحمد الله على أن مبادرة السلام العربية تجيز لها هذا العيش، إنما في حال قامت دولة فلسطين على حدود الرابع من يونيو 1967، وعاصمتها القدس الشريف. وهنا تبدو الأنظار شاخصة نحو مسعى جديد من جانب أبي المبادرة العربية خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز لدى البابا فرانسيس، عسى أن يتصرف مع دول العالم الكاثوليكي نصحا وضغطا كما لم يفعل السابقون. وعندها، تحل محل صيحات العدوان الصهيوني حكمة السيد المسيح.. «على الأرض السلام وفي الناس المسرّة».