الصين وسياسة الغدر المهذب

TT

لن تكون الصين القوة الاقتصادية الأولى في العالم فقط عام 2016 - بحسب تقارير سابقة - لكنها ستشكل تحديا هائلا وبشكل متزايد، للتفوق الأميركي العسكري، خاصة في المياه المحيطة بالسواحل الصينية والتي تضم اليابان وتايوان، بحسب دراسة جديدة أعدها تسعة باحثين من «مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي».

يأتي هذا التقرير بعد أن سجلت الصين عام 2012 دخلا قوميا يوازي الدخل القومي لكل دول منطقة اليورو الـ(17) مجتمعة. المعجزة الصينية باتت حقيقة واقعة، بعد أن كان الصيني ينظر إلى القاهرة في ستينات القرن الماضي على أنها مدينة عظيمة، صارت هذه الأخيرة مقارنة بمدينة بكين أو شنغهاي خارجة من العصر الحجري. حقق الصينيون في ثلاثين سنة (1980 - 2010)، أعجوبة العصر. وما أنجزه الهنود والماليزيون والبرازيليون ليس بالقليل، لكن النموذج الصيني لافت، لأنه أدار ظهره للقيم الغربية كما لم يفعل أحد، دون أن يعاديها أو يفتعل صراعا مباشرا معها. فمع سقوط حائط برلين وانهيار الاتحاد السوفياتي، قرر دينغ زياو بينغ، إصلاحات اقتصادية جذرية. واستطاعت الصين منذ عام 1992 أن تزاوج بين ديكتاتورية الحزب الشيوعي بقبضته الحديدية والنظام التجاري الليبرالي الحر، دون أن تتخلى الدولة عن سلطتها الأبوية على مؤسساتها الكبرى. وصفة قفزت بالصين سريعا، رغم أنف المعترضين والمنتقدين وحتى الثائرين على النظام في ساحة تياننمن الشهيرة. دخلت الصين منظمة التجارة العالمية منذ عام 2001، وها هي اليوم القوة الاقتصادية الثانية في العالم بعد الولايات المتحدة، وتستعد لتتبوأ المركز الأول بجداره.

بات الخبراء الأميركيون والمتخصصون في الصين يعترفون أن نظرية فوكوياما حول «نهاية العالم» التي تعتبر النظام الليبرالي الغربي هو آخر الأنظمة وخاتمتها، تدحضه الصين التي أصبحت نقيضا للمجتمعات الغربية وقيمها. يعترف البرفسور الأميركي في هارفارد المتخصص في العلاقات الصينية - الأميركية نيال فيرغسون بأن «ما يشهده العالم هو نهاية 500 سنة من السيطرة الغربية».

ترفض الصين احترام ما سماه الغرب حقوق الملكية الفكرية، وبنت مجد إمبراطوريتها الصناعية وحتى التكنولوجية على تقليد البضائع وإعادة إنتاجها وتصديرها بأبخس الأثمان. لم تعبأ الصين بكل الأصوات الغربية التي دعتها إلى توقيع اتفاقيات حول البيئة، والتقيد بنظم دولية ومقاييس عالمية، وتعتبر اليوم البلد الأكثر تلوثا في العالم. وإذا كانت الديمقراطية هي مقياس التطور الغربي الأول، فإن الحزب الشيوعي ما يزال يتربع وحيدا على رأس السلطة. أما عن الحرية فالصحافيون هناك يخبرونك بأنهم يخضعون لتعليمات صارمة، ويدعون إلى اجتماعات إجبارية يتلقون خلالها أوامر حول ما يستطيعون كتابته وما يتوجب غض الطْرف عنه، هذا غير سجن الصحافيين واستدعائهم لتحقيقات قاسية. النموذج الصيني لا يزال عصيا على الفهم، وثمة تساؤلات حول إمكانية صمود هكذا نظام، وقدرته على الاستمرار في التقدم، رغم عيوبه القاتلة.

الفساد ليس أقل هذه العيوب بل أكثرها خطرا. فما يزال ثلثا الشعب الصيني فقيرا، وإن بدأت الطبقة الوسطى تنمو ببطء، فيما تحتكر فئة قليلة جدا سبعين في المائة من ثروة البلاد. طبقة فاقعة الثراء، حد الاستفزاز. هؤلاء ليسوا سوى أولاد كبار قادة الحزب الحاكم، بينما يعاني ما لا يقل عن 150 مليون عامل من الكد المنهك مقابل مداخيل بخسة. النقابة العمالية الوحيدة في الصين هي تلك التي ترعاها الدولة، وتمارس ضغطا يصل إلى حد ضرب العمال في حال قرروا الاحتجاج.

الصين ليست في وارد الهجوم على منافسيها بل على العكس. الخطاب الصيني الرسمي والصحافي، يؤكد على ضرورة التعاضد، وعلى أن المصالح مشتركة مع الغرب. ما تضمره الصين أمر وما تعلن عنه هو شيء آخر. القوة الصاعدة التي تخيف نصف الأرض، ما تزال تفضل تصنيف نفسها في خانة متواضعة. لا يضيرها أن توصف بأنها من العالم الثالث مثلا، أو أنها ما تزال بعيدة عن أن تصبح قوة عظمى، فهذا مما تحتاجه الصين لتحقق إنجازاتها بينما تنشغل الولايات المتحدة مرة في أفغانستان وأخرى في العراق أو ليبيا أو سوريا.

غالبية المتخصصين الغربيين في الشأن الصيني يستبعدون صداما عسكريا بين الولايات المتحدة والصين، بما في ذلك البحاثة الذين أعدوا التقرير الجديد لمؤسسة كارنيغي. لكن الصين تنتهج سياسة المخالب الخفية، والقبضة الحريرية. وهي إن كانت لا تملك الأساطيل التي تواجه العسكرة الأميركية تبقى ذات تفوق لا يضاهى في الجاسوسية وجمع المعلومات، والتخطيط التكنولوجي لشل قدرة العدو عن بعد. هذا غيض من فيض الاستراتيجيات الصينية الخفية.

ليست الصين بكل عاهاتها هي النموذج الذي نتمنى، لكنها القوة التي تشتهى. أهمية الصين في قوة شخصيتها الاجتماعية والوطنية. في الثقة بالانتماء إلى حضارة قادرة على الانبعاث، مع الاستفادة الكاملة من الإيجابيات الممكنة والإيمان بأن السلبي يمكن إصلاحه بالصبر وبفعل الزمن.

حين يسأل أحد الخبراء الاقتصاديين الصينيين متى يصبح لكل عائلة صينية سيارة ومنزل أنيق، كما هي حال العائلات الغربية، يقول بثقة: «هل تتصورون بلدا مثل الصين تعداده مليار و300 مليون مواطن، ولكل أسرة سيارة؟ هذا سيكون جحيما لا يطاق، عددنا الكبير يجعلنا نتخلى عن أحلام كثيرة».

يبقى الأميركيون متفائلين بأن لهم من القيم الحضارية والقوة العسكرية ما سيحميهم لعقدين مقبلين على الأقل، من ضخامة التنين الصيني.

هذا إذا تكلمنا عن الصين وحدها، لكن إذا اكتملت عناصر تشكيل حلف البريكس الذي يضم روسيا والصين والهند والبرازيل، متجاوزين الخلافات التي تفرقهم، فإن 40 في المائة من ثروات العالم تصبح في يد هذا الحلف، أما إذا تمكنوا بالفعل من إصدار عملة واحدة، فالموازين الاقتصادية ستختل بقوة. الفوضى التي يعيشها العالم اليوم لا تأتي من فراغ، القوى تتشكل، تتفاوض، تتصارع، فيما تزهق مئات الأرواح، بانتظار تبلور النظام الجديد.