البعد الاقتصادي في صعوبة الوصول للديمقراطية

TT

في الأسبوع الماضي استخلصنا أن انتفاضات 2011 (سميت خطأ «الربيع العربي») لن تصل بتوقعات نخبة شباب الطبقات الوسطى مفجري شرارة الثورة إلى بر ما يشبه الديمقراطية لخلل في العنصر السياسي للثقافة الاجتماعية.

السبب غياب ثقافة احترام حقوق الفرد والتضحية به على مذبح كيانات غير محددة قانونيا، بأعراف تحل، بإجماع مشترك، محل القانون الذي يستهتر به الإجماع العام. (يجد كثير من المثقفين العرب صعوبة مثلا في تفهم عجز الحكومة البريطانية عن ترحيل أبو قتادة الذي تتولى الخزانة البريطانية دفع تكاليف أتعاب محاميه وهم يكسبون القضية تلو الأخرى ضد وزارة الداخلية، لأن هيبة القانون وقدسيته لا يجرؤ رئيس حكومة بريطانية على المساس بهما).

وهذا يضع الحلم الديمقراطي، الذي من أجله ملأ الناس الميادين، خارج متناول صناع الثورة.

أما خيبة أمل الجماهير البسيطة، فهي استبعادنا إمكانية توصل الفرد إلى مستوى معيشة معقول بأبسط حدود الكرامة الإنسانية.

والعبارة الأخيرة هي المدخل للعنصر الثاني؛ البعد الاقتصادي في الثقافة السياجتماعية لهذه البلدان، والذي يدعم تقديرنا بفشل شبه الثورات عن تحقيق الأحلام في المستقبل المنظور.

فصحوة بناء الديمقراطية وتحرير الفرد لا تنفصل عن التحرر الاقتصادي، والذي يعرف بديمقراطية السوق.

ناقش أي مثقفين عربيي اللسان وستسمع تكرار الشكوى من غياب حرية الصحافة. وهم يصفون الواقع، لأنه بلا صحافة حرة لا يمكن للدساتير والقوانين وحتى البرلمانات المنتخبة (بلا تزوير) أن تصلح وحدها لدور حارس يكلفه الشعب بحماية الديمقراطية. فهذه المؤسسات وحدها لا تحول دون تحول مفصليات الديمقراطية (انتخابات ومجالس تمثيل محلية ونيابية) إلى وسيلة مواصلات تركبها التنظيمات والجماعات الفاشية للوصول إلى الديكتاتورية الشمولية.

فأدولف هتلر وأعوانه مرتكبو أبشع الجرائم ضد الإنسانية في التاريخ الحديث، وصلوا للحكم في مركبة الانتخابات الديمقراطية.

والصحافة لا يمكن أن تكون سلطة رابعة حقيقة بلا استقلال تام. وحرية الصحافة لا تحميها التشريعات؛ فالمقولة oxymoron أي مفارقة تناقض نفسها (لأن القوانين بطبيعتها قيود) بل يوفرها استقلالها اقتصاديا بتحقيق الأرباح كسلعة ناجحة الترويج وهو المقصود بديمقراطية السوق.

فالصحافيون الناجحون يصوِّت القارئ بإعادة انتخابهم كل صباح بالقروش القليلة التي يدفعها لشراء صحيفتهم بينما تفشل الصحف (غالبا المؤدلجة) التي تخدع الجماهير عندما تظل عانسا على أرفف أكشاك الصحف حتى المساء. مثلا «الديلي تلغراف» الإنجليزية هي خزانة التفكير المعلن لمثقفي حزب المحافظين (الحكومة الآن)، مانشيتها الرئيسي صباح الخميس عن استغلال شركة استثمار عقاري، تمتلك زوجة رئيس الوزراء نسبة من أسهمها، لقوانين المباني السكنية التي أصدرتها الحكومة. الصحيفة، كشركة مستقلة اقتصاديا، وضعت جودة السلعة (تقرير صحافي جيد المصداقية) للمستهلك (القارئ الذي يمنحها صوته كل صباح) قبل الولاء السياسي للحزب.

أنجح التجارب في النظام البرلماني في المنطقة كانت في مصر كنتاج لثورة 1919 وعودة سعد باشا زغلول من المنفى بعد عامين ليكتسح الانتخابات بحزب الوفد، ويصبح دستور 1923 هو أعظم وأنجح دساتير أفريقيا والشرق الأوسط خلال الحقبة البرلمانية 1922 - 1952. ثورة 1919 بدورها فرع في شجرة غرسها محمد علي باشا ورواها وغذاها أولاده، وقوي جذعها بتطوير رفاعة الطهطاوي وعلي مبارك للتعليم الذي دمقرطه الدكتور طه حسين، لينعم الفقراء، بمعارفه بمجانية مدارس التعليم الابتدائي وفصول محو الأمية. عنصر التعليم (ونأمل تناوله في مقال منفصل) تلخص في اسم «المعارف» كجوهر عمل الوزارة المسؤولة عن النهضة الذهنية والمعرفية للأمة، ما كان لينجح بلا ازدهار العنصر الاقتصادي المبني على المبادرة الفردية وانسجام ديمقراطية السوق مع الإجماع السياسي والثقافة الاجتماعية للفترة 1922 - 1952.

فسنوات نهضة مصر مع دستور 1923 كان دعامتها التصنيع الرأسمالي للاقتصاد المصري في ثورة قوانين التنظيم المالي لطلعت حرب باشا. بنك مصر وفر قروض الاستثمار للتصنيع في شتى المجالات، من النحاس، والقطن والنسيج إلى السينما والكتب، ولم يفرق بين إقراض المصري والأجنبي، فكلاهما نشاط للسوق المصرية.

عمل الرأسماليون لساعات طويلة شاقة فخلقوا فرص العمل للمئات، فالملايين، ليس إيمانا بآيديولوجيا، أو شعارات دينية أو وطنية (الكثير منهم يهود وغير مسلمين ومتعددو الجنسيات) وإنما بأبسط مفاهيم السوق. فلكي يفي المستثمر بأقساط القرض للبنك، ويدفع أجور العاملين، يضاعف الإنتاج فتزيد الأرباح، ويتوسع في مصانع جديدة، وهو ما يعرف ببساطة بالنمو الاقتصادي بلا خطط خمسية ولا يحزنون، ولم تكن هناك وزارة للتخطيط.

ورأت حكومة سعد باشا (وما بعدها من حكومات) أن مهمتها ليس تملك الدولة لوسائل الإنتاج (لم تمتلك مصنعا واحدا أو صحيفة، فقط دعمت مرافق الخدمات العامة التي لا تربح لأنها مجانية للشعب) بل، كحكومة برلمانية، سنت قوانين تنظيم علاقات العمل وحماية المستهلك، حتى لا تعم الفوضى السوق، وقوانين توازن بين جذب المستثمر الأجنبي بإغراءات الربح وحماية ممتلكاته، وبين حقوق المجتمع لسد ثغرات التهرب من الضرائب، لتحصيل ما يكفي الخزانة لتمويل المرافق العامة؛ والاستمرار في تعديل القوانين لمواكبة تطورات العصر وابتكاراته وحاجة السوق وتسهيل تصدير المنتجات ليكون ميزان المدفوعات إيجابيا في صالح مصر (عشية انقلاب العسكر في 1952 كانت بريطانيا العظمى مدينة لمصر بما قيمته اليوم سبعة مليارات دولار).

وحتى الفصل في المنازعات بين النقابات العمالية وأصحاب الأعمال ترك للقضاء المستقل بلا تدخل الحكومة (قارن ذلك بإرسال الكولونيل عبد الناصر، وزير الداخلية ورئيس الوزراء في حكومة الانقلاب العسكري، لقواته لفض إضراب عمال النسيج وشنق زعيمي الإضراب، بعد فتوى بتكفيرهما من جماعة الإخوان المسلمين (وكانوا حلفاءه آنذاك قبل محاولتهم اغتياله).

ولم تكن مصادفة أن النظام البرلماني التعددي، كان مرادفا لاحترام القانون، ولحرية الصحافة، وللنمو الاقتصادي وارتفاع الوعي الثقافي.

ورغم تقدم التجربة المصرية (1922 - 1952) عن بقية دول المنطقة، فإنه سهل على العسكرتارية الناصرية الإجهاز عليها سياسيا فور تدمير عنصر الاقتصاد الحر بالتأميمات، لأن الثورة الصناعية في الاقتصاد والمال كانت لا تزال قشرة ضحلة لم تتم في مصر والبلدان العربية، بالعمق والاتساع نفسيهما اللذين تمت بهما في أوروبا، خاصة بريطانيا (القرنين 18 و19) التي تظل الأكثر تماسكا نقديا واقتصاديا مقارنة بمنطقة اليورو الأوروبية، لأن الحرية الفردية في بريطانيا أقوى بمراحل من نظيراتها الأوروبية، خاصة في مجال الملكية الفردية وحرية الاستثمار الفردي، بينما حرية السوق التجارية في بريطانيا هي الأكثر اتساعا فيهرب المستثمر الأوروبي من بلاده إليها. فغياب عنصر حرية السوق الاقتصادية عن الثقافة الاجتماعية هو أيضا أحد معرقلات وصول انتفاضات 2011 إلى بر الديمقراطية.