لبنان.. بانتظار «المثاليين الواقعيين»

TT

نصيحة رئيس الحكومة اللبنانية المستقيل، نجيب ميقاتي، للرئيس المكلف تشكيل الحكومة الجديدة، تمام سلام، استندت إلى «ميزة عملية» يمتلكها الرئيس ميقاتي - وكل رؤساء الحكومات السابقين - بالمقارنة مع السياسيين المستجدين على رئاسة الحكومات اللبنانية: «التجربة»، كي لا نقول «الخبرة». وإذا كان الرئيس ميقاتي محقا في توقعه بأنه، «مع الوقت»، سوف يدرك سلام «أن هناك فارقا بين المثالية والواقعية» و«أن الإنسان يجب أن يكون واقعيا في أدائه لا مثاليا بالمطلق»، فقد لا يكون عالم السياسة، حتى في لبنان، مرهونا كليا «بالواقعية».

لا يختلف لبنانيان على أن الساحة السياسية اللبنانية، بمناوراتها المكشوفة والمستترة أحيانا، هي مقبرة المثاليات العقائدية والمناقبية معا.

بعد ستة عقود على استقلال لم يحسن اللبنانيون توظيفه وطنيا، لا تزال الديمقراطية اللبنانية في طور التبلور.. هي، في أحسن حالاتها، معادلة توازن بين الطوائف والمذاهب، وفي أسوئها - إن لم يكن في واقعها الفعلي - عملية محاصصة لمنافع الدولة ومكاسبها.

واقع الديمقراطية اللبنانية يفسر، إلى مدى كبير، الخلافات الناشبة حول قانون انتخاب يتفق اللبنانيون على وجوب تمثيله الجميع بأفضل طريقة ممكنة.. ويختلفون على تحديد هذه الطريقة.

والمؤسف أنه في وقت أصبح فيه لبنان في أمس الحاجة إلى قانون انتخابي يضمن انصهار كل مكوناته المذهبية والإثنية في بوتقة اجتماعية متكاملة تتجاوز الفسيفساء المذهبية التي لمجتمعهم، بلغت الخلافات الطائفية والمصلحية حول هذا القانون حدا من التباين لم يسبق أن شهده لبنان من قبل، وكأن بين الكتل السياسية المتنازعة على صيغته وآليته من يضمر إلغاء آخر مظهر من مظاهر الواجهة الديمقراطية الهشة في لبنان.

واضح أن التكوين الطائفي للمجتمع اللبناني ما زال يحول دون قيام المجتمع الموحد، خاصة أن الطائفة في لبنان «كيان سياسي بحد ذاته»، كما سبق أن لاحظ القطب اللبناني الراحل كمال جنبلاط.

ولكن حرارة «بارومتر» الوضع السياسي باتت تتأثر اليوم، أكثر من أي وقت مضى، بالاحتمالات المتبقية للاتفاق على قانون انتخاب «يرضي» الجميع؛ ولا نقول يؤمن التمثيل الأفضل للجميع، لأن الاعتقاد باحتمال التوصل إلى مستوى كهذا من التمثيل في لبنان يعتبر «دنسا فكريا».

صحيح أن لبنان ينعم باستقرار نسبي بالمقارنة مع أوضاع المنطقة، مما قد يرشحه للقب «جزيرة الربيع العربي الهادئ» في محيط هائج مائج، ولكن امتداد النزاع السوري، عسكريا، إلى حدوده الشمالية الشرقية، ومذهبيا إلى داخل مكونات مجتمعه، بات يبرر التساؤل: هل هو استقرار جدي أم مجرد هدوء يسبق العاصفة؟

من الصعب في ظروف لبنان الراهنة التزام المثالية الخالصة - كما الواقعية المطلقة - في العمل السياسي، خصوصا على صعيد صياغة قانون انتخابي جديد أفضل تمثيلا لتعددية المجتمع اللبناني. ولكن هل يعدم لبنان، في هذه الظروف الحرجة، وسيلة ما للتأليف بين المثالية العقائدية والواقعية السياسية - اقتداء بما كان المهاتما غاندي يسميه «المثالية الواقعية» البعيدة عن الطوباوية - خصوصا أن لبنان كان، ولا يزال، بلد التسويات السياسية الصعبة إلى حد إدراجها، أحيانا، تحت عناوين تناقض نفسها بنفسها مثل شعار «لا غالب ولا مغلوب»؟

لا جدال في أن على السياسي الناجح في لبنان أن يكون «مثاليا واقعيا» بحيث يتمكن من «تدوير الزوايا» في تعامله مع كل أزمة تهدد توازنات التركيبة اللبنانية، خارجية كانت أم داخلية.. وهنا تكمن معضلة لبنان الفعلية؛ ففي أحرج أيامه وأدق ظروفه، بات «المثاليون الواقعيون» بين ساسته قطعا نادرين جدا.