المبادرة العربية بين التعديل والتغيير

TT

قابل الأميركيون، من خلال وزير الخارجية جون كيري، مبادرة الجامعة العربية بالموافقة على مبدأ تبادل الأراضي بين الفلسطينيين والإسرائيليين، بحفاوة بالغة، بدت فيها المبادرة كما لو أنها اختراق جوهري يساعد على المضي قدما في جهود إحياء السلام الفلسطيني - الإسرائيلي.

الحفاوة الأميركية مردها إلى أن الوزير كيري كان بحاجة لوقود من هذا النوع يضعه في مركبته وهي تتسلق سلسلة جبال مرتفعة، وتسلك دروبا وعرة، سبق أن حطمت أقوى المركبات وأعادتها إلى السفح.

الخطوة العربية في مجال السجال الدائم بين العرب وإسرائيل حول عنوان من يريد السلام ومن لا يريد، تعتبر موفقة وحكيمة ومصدر حرج للإسرائيليين.. أما موقعها في مجال التهيئة لحل سياسي خلال فترة الرئيس أوباما، كما تعهد بذلك الوزير كيري، فهو شديد التواضع بالقياس لمطالب الإسرائيليين من الفلسطينيين أولا، ومن العرب أخيرا.

وهنا علينا تجاوز هذه الخطوة مهما بدت مهمة ومؤثرة، للحديث عن الأصل، وهو المبادرة العربية للسلام، وماذا تريد أميركا منها، وماذا تريد إسرائيل.

أميركا، قبل وصول وفد الجامعة، تحدثت صراحة عن حتمية تعديل المبادرة، ليس من أجل المساعدة في إحراز تقدم أو اختراق.. وإنما لتشجيع الإسرائيليين على التعامل الإيجابي معها، ولا أحد يعرف على وجه الدقة ما إذا كانت المبادرة بقبول مبدأ التبادل تكفي الأميركيين أم أنهم سيطلبون أمورا أخرى في الفترة المقبلة.

أما الإسرائيليون الذين يلعبون مع الفلسطينيين والعرب بأوراق مكشوفة، فهم في غير وارد تغيير موقفهم الأساسي من المبادرة العربية لمجرد تعديل فقرة أو إضافة جملة.. بل إنهم يتطلعون إلى تغيير المبادرة وإعادة صياغتها لتكون منسجمة تماما مع أجنداتهم المعلنة، التي تبدأ بعودة الفلسطينيين إلى مائدة المفاوضات من دون قيد أو شرط، واستبعاد ذكر حدود الرابع من يونيو (حزيران) 1967 كمرجعية للتفاوض على الأرض، مع طلقة مدخرة حال الاضطرار إلى الإطاحة بالجهود الأميركية، وهي حتمية الاعتراف بيهودية الدولة، وهذه خطوة ألزم الفلسطينيون أنفسهم بعدم الإقدام عليها، وبالتالي فإن العرب يشاطرونهم هذا الالتزام.

وتحت هذه العناوين التعجيزية لا يعدم الإسرائيليون مطالب أخرى يعرفون مسبقا أن الفلسطينيين لا يقبلونها تحت أي ظرف، مثل المطالب الإسرائيلية بشأن القدس، وتفضيلهم حسم الترتيبات الأمنية قبل الدخول إلى خرائط الأرض والحدود.

ولقد أعاد السيد نتنياهو التأكيد على أجندته لمجرد الإعلان عن المبادرة العربية، مقللا من أهميتها، ومطالبا بتحقيق كل ما تقدم كي يكون السلام مع الفلسطينيين ممكنا، إضافة إلى إعلان خشيته من أن يتعامل كيري مع المبادرة العربية بصورة عملية... رغم الاتصال الهاتفي المطول الذي أجراه معه، وبالقطع فإن اتصالا كهذا يأتي في سياق الحفاوة الأميركية بخطوة الجامعة العربية، لا بد أن يكون قد تضمن طلبا أميركيا مباشرا بالترحيب من جانب الحكومة الإسرائيلية، ممثلة برئيسها، وعدم الاكتفاء بترحيب تسيبي ليفني؛ فهي، وإن كانت حاملة لملف التفاوض مع الفلسطينيين، لا تملك أي قدر من التأثير على القرارات النهائية للحكومة الإسرائيلية الحالية.

إن تكتيك نتنياهو مع إدارة أوباما، ومع الوزير كيري بالذات، واضح بصورة لافتة، فهو على استعداد لمجاملة الرجل في أمر المنطلقات العامة، كالقول إن إسرائيل متلهفة للسلام مع الفلسطينيين ومستعدة للتعاون مع كيري إلى أبعد الحدود، وكلام كهذا لا يلزم نتنياهو بشيء، ولا يلقي ظلالا على سعيه الدؤوب كي يضع بنفسه أسقف تطلعات كيري، بل إنه يجد تشجيعا قويا من أوساط أميركية نافذة في الكونغرس لخططه المدروسة لوضع العصي في دواليب الوزير الديمقراطي، وجعله لا يتقدم بأي أفكار أو مبادرات لا يكون موافقا عليها من جانب الحكومة الإسرائيلية قبل أن تعرض.

في كل الأحوال، فإن المبادرة العربية بقبول مبدأ التبادل، تصلح لأن تكون رسالة مرونة واستعداد لاشتباك تفاوضي أكثر إيجابية مع الأميركيين أولا، أما الإسرائيليون الذين يحبون كل شيء أميركي، ما عدا التدخل في أمر السلام الفلسطيني - الإسرائيلي، فإنهم سيحاولون طرق الحديد الملتهب بمزيد من المطالب، وإلا فبوسعهم بعد ذلك القول إن ما قدمه العرب هو مجرد مناورة، وعليهم تقديم الأكثر لإثبات المصداقية.