قانون العزل السياسي ومرحلة بناء الدولة

TT

تابعت كما تابع الكثيرون الجدل الدائر حول قانون العزل السياسي، والذي تطور إلى تحرك أطراف مسلحة بآلياتها ورجاها لمحاصرة بعض وزارات الدولة. والجدل والتحاور قبل اصدار هذا القانون وغيره من القضايا السياسية والاجتماعية والاقتصادية ظاهرة طبيعية وإيجابية في هذه المرحلة وغيرها من المراحل القادمة. الشعب الليبي عاش أكثر من نصف قرن لا يعرف ثقافة الأحزاب والعمل الحزبي إلا تحت الأرض ولم يعرف الممارسة الديمقراطية الحديثة على الإطلاق.

وعندما انتصرت ثورة 17 فبراير (شباط) وفتحت أمامه أبواب الحريات العامة: حرية التفكير، حرية التعبير، حرية النشر والتوزيع، بدأ هذا الشعب يتنفس ويقول ما يريد ويكتب ما يريد، وانطلقت عشرات القنوات الفضائية وعشرات الإذاعات وعشرات الصحف، إضافة إلى مواقع كثيرة على شبكة الإنترنت.

وكشفت وسائل الإعلام عن عمق الكارثة الثقافية التي تركها النظام الهالك نظام الديكتاتور معمر القذافي، فقد ترك أجيالا تجهل كيفية التعامل مع القضايا المعقدة ومنها السياسية والقانونية والتعليمية والدولية، ترك أجيالا لا تعرف كيف تتعامل مع وسائل الإعلام الحديثة لغة وصياغة ومهنة وتحليلا، ترك أجيالا لا تحسن أي لغة من اللغات الحية ومنها لغتهم العربية، ترك أجيالا لا تحسن الاستماع لبعضها لتفهم وجهات النظر المتباينة وما تحتاجه من علاج وتوافق. ترك أجيالا تطالب بالحقوق أكثر من الالتزام بالواجبات. في هذه الأجواء وفي هذه الظروف يعمل كل من تولى مسؤولية السلطة، سواء في المؤتمر الوطني أو في الحكومة أو في مؤسسات الدولة الأخرى، وبسبب حالة القصور في تجارب الحكم والعمل السياسي وقعت عدة أخطاء كبيرة في التشريعات وفي الممارسات منذ المجلس الانتقالي إلى الوقت الحاضر وبعض تلك الأخطاء وقعت تحت ضغوط رأي عام لا يملك الخبرة السياسية ويبحث عن مصالح جهوية أو حزبية أو شخصية.

وأخطر أنواع الضغط ما يقع تحت التهديد بالسلاح وهو أمر ترفضه غالبية الشعب الليبي التي ظهرت في مسيرات وندوات ومقابلات تدين مظاهر التسلح التي حاصرت بعض الوزارات السيادية وغير السيادية في الأسبوع الأول من شهر مايو (أيار) 2013.

إن تصحيح الأخطاء واجب وضرورة، واجب على كل المسؤولين، وخصوصا المؤتمر الوطني بأحزابه وكتله والمستقلين فيه، كما هو واجب الحكومة المدعومة من المؤتمر الوطني، وهو ضرورة وطنية تقتضي على كل القوى المدنية، وخصوصا الواعية، أن تقف موقفا قويا ضد كل من يلجأ إلى السلاح لفرض رأي معين أو شخص معين أو لفرض أي فكر نظري أو عملي.

الديمقراطية ودولة القانون هي خيار الشعب الليبي بعد أن جرب الانقلابات وأسلحتها وخرابها وعذاباتها.

وهو اليوم يسعى لتثبيت الديمقراطية الحديثة بمؤسساتها التشريعية والقضائية والتنفيذية مع وجود إعلام حر ومسؤول. لا شك أن المرحلة صعبة وتتطلب الصبر والحكمة والمعرفة والإرادة القوية والشجاعة، وبعون الله سوف تجتاز البلاد هذه الصعوبات وكل العواصم المهمة في عالم اليوم ترغب في دعم ليبيا ونجاح عملية بناء دولة القانون التي تحقق الأمن الاجتماعي والاستقرار السياسي والاستثمار الاقتصادي.

العالم، وخصوصا أوروبا والولايات المتحدة، يريد ليبيا بلدا مستقرا لأهميته الجغرافية والاقتصادية والأمنية وعلى كل القوى والشخصيات السياسية في ليبيا أن تحسب أقوالها وأفعالها حسابا دقيقا وأن تضع مصلحة الوطن وخياره الديمقراطي وعلاقاته الدولية في رأس أولوياتها في هذه المرحلة المهمة من بناء الدولة.

* السفير الليبي لدى بريطانيا