شجاعة الصبي المصري

TT

هناك أكثر من رأي وموقف تجاه ما يسمى بـ(الاستعمار) من قبل الدول المتقدمة للدول المتأخرة، وهل هو خير أم شر، والجواب على هذا السؤال وراءه في الغالب (خرط القتاد)، خصوصا إذا كنت ممن يرون خيره أكثر من شره (كحالاتي).

فلولا الاستعمار والمستعمرون لظلت دول العالم الثالث تراوح إلى الآن في مكانها وترزح في تخلفها وخرافاتها.

والغزو ليس دائما غزوا حربيا، فقد يصاحبه غزو فكري وحضاري، ولولا الغزوات عبر التاريخ لما تلاحقت الشعوب، ولولا ذلك لما تأثر (ابن رشد) بـ(أرسطو)، ولما تأثرت الفلسفة الأوروبية في ما بعد بـ(ابن رشد) على سبيل المثال.

ومن سوء حظ مصر أن (نابليون) وعلماءه وأطباءه وفنانيه لم يمكثوا فيها غير ثلاثة أعوام، ولو أنهم مكثوا فيها على الأقل ثلاثين سنة لتغير تاريخ مصر نحو الأفضل.

هذه هي وجهة نظري المتواضعة، ولي حججي التي قد تكون مخطئة وقد تكون صائبة.

وهذه التوطئة أو المقدمة هي للولوج لمعنى (الكفاح) للشعوب سواء كانت مبصرة أو كانت عمياء، كما أنني أطرح سؤالا من السهل الإجابة عنه، وهو: هل الشجاعة بالنسبة للفرد لها عمر معين؟

وإليكم هذه الواقعة التي كتبها في مذكراته الجنرال (ديزيه) إبان الاحتلال الفرنسي لمصر، يقول:

لفت نظري ذات ليلة اختفاء بعض الذخيرة في معسكري بالصعيد، وفي الليلة التالية تكرر ذلك الشيء، فأمرت بتشديد الحراسة، وفي الليلة الثالثة وجدنا صبيا لا يتجاوز عمره الثانية عشرة يتسلل وسط الظلام بصدره العاري ليخطف بعض البنادق، فقبضوا عليه وأتوا به إليّ، وسألته: لِم تسرق أسلحة الجيش الفرنسي؟

- لأنها أسلحة أعدائي وأعداء أهلي وبلادي.

- ومن حرضك على هذه الجريمة؟

- ربنا.

- وماذا قال لك ربنا؟

- قال لي دافع عن بلادك.

- هل تعرف أن عقوبتك هي الشنق؟

- نعم، وأنا المسؤول عن كل ما حدث، وهذا رأسي اقطعه إذا شئت.

وأردت أن أختبر شجاعة الصبي، فأمرت صوريا بإعدامه، فتجلّت شجاعة المواطن المصري الصغير فلم يبكِ، ولم يصرخ، ولم يطلب العفو، ولكن رفع رأسه إلى السماء وتمتم ببعض آيات قرآنية.

وهنا راعني ذلك الموقف الفريد، فأمرت بوقف الإعدام، واستبدال الجلد به ثلاثين جلدة كنوع من التأديب، وقد تحملها ذلك البطل الصغير دون أن يفتح فمه بآهة واحدة، فلم أملك إلا أن أوقف الجلد وتوجهت إليه قائلا: يا بني.. سأكتب في تقريري اليوم أنني قابلت أشجع ولد في الصعيد، بل أشجع ولد في العالم كله.

وقبل أن أطلق سراحه أمرت له ببعض النقود، ولكنه رفضها بكل إباء وشمم، ودهش المسيو (فيفيان ديتون) المؤرخ الفرنسي الذي كان حاضرا ذلك الموقف، فما كان منه إلا أن يعرض على الصبي أن يتبناه ويأخذه معه إلى باريس ويكفل له مستقبلا سعيدا، فرفض قائلا له: ستندم على تربيتك لي، لأنني سأقتلك وأقتل معك من أستطيع من أعداء وطني - انتهى.

مع الأسف أنه لم يعرف إلى الآن اسم ذلك الصبي، ولكنه من قرية (الفقاعي) بمركز (ببا).

لم أصدق ذلك في البداية لولا أن هذه الواقعة وردت بحذافيرها في مذكرات الجنرال (ديزيه)، وليس من مصلحته أن يكذب، غير أن شجاعته هي التي أجبرته أن يعترف بشجاعة ذلك الصبي المصري.

إنه تاريخ، وما أكثر ما لم يكتبه التاريخ.