الأغلبية والمعارضة في المغرب

TT

من البديهيات المقررة في الديمقراطيات العريقة، بل ما يكسب الممارسة الديمقراطية الحق دلالتها التامة، وجود التمايز التام بين الأغلبية (الموالاة) وبين المعارضة. فالأغلبية تمتلك السلطة التنفيذية، بموجب الحكم الذي قررته الإرادة العامة للمواطنين، وتمارسها وفق برنامج سياسي واضح. يمكن القول، في عبارة أخرى، إن البرنامج السياسي المشار إليه عقد تلتزم الأغلبية بالوفاء به وليست المعارضة سوى القوة (أو مجموع القوى الشرعية) التي تراقب مختلف الخطوات العملية في تطبيق البرنامج المتعاقد عليه بين الأغلبية وبين الأمة. أما المعارضة فهي «البرنامج البديل»، أي النقيض أو على الأقل المغاير في اختياراته الكبرى لما تطرحه الأغلبية وما تلتزم بتنفيذه. وما يعسر على العقل الغربي تصوره، بل وما لا تفهمه الديمقراطيات في العالم أجمع، هو أن تكون السلطة التنفيذية مشتركة أو متقاسمة بين الأغلبية وبين المعارضة، بمعنى أن تكون توافقا ما حول برنامج مشترك. المعارضة والأغلبية رؤيتان متغايرتان ينتج عنهما بالضرورة برنامجان سياسيان لا يقبلان التعايش والتوافق. ومتى استوجب تشكيل الأغلبية الإجبارية لامتلاك السلطة التنفيذية تكتلا سياسيا بين أحزاب وقوى سياسية متغايرة فإن صياغة برنامج متفاوض عليه تظل رهينة بوجود التقارب الأصلي بين قوى سياسية متقاربة، تلتقي عند الاختيارات الكبرى وتجتمع عند الرؤية الاستراتيجية الواضحة، وتقتضي القيام بتنازلات محسوبة لا تطال العمق الذي يتهدد الهوية السياسية المميزة للقوة السياسية الواضحة. من ثم فإن حكومات التحالف الوطني تكون في المعتاد حكومات الحد الأدنى من التوافق السياسي، ومن ثم فإنها تكون ذات عمر سياسي قصير، هو عمر التحالف السياسي الذي يظل متشوقا إلى التبدل كما أن حكومة «التحالف الوطني» لا تظهر إلا في أحوال الأزمات الكبرى، حيث يكون الوطن ذاته مهددا.

ما الشأن بالنسبة للمغرب اليوم، بحسبانه بلدا يخوض تجربة التحول الديمقراطي في العالم العربي، فهو بلد استطاع - فيما يبدو - أن يجتاز بنجاح اختبار «الربيع العربي»؟ وما الشأن بالنسبة لكل من الأغلبية والمعارضة في ظل ائتلاف حكومي لا يتوافق من أوجه شتى مع الصورة البسيطة المرسومة أعلاه؟

قضى «الربيع العربي» في المغرب بوصول حزب العدالة والتنمية (الإسلامي) إلى السلطة التنفيذية بمعية ثلاثة أحزاب أخرى: حزب الاستقلال، وقد احتل المرتبة الثانية في الانتخابات التشريعية الأخيرة التي أعقبت الإعلان عن الدستور المغربي الحالي، وحزب الحركة الشعبية (يميني - تقليدي)، وحزب التقدم والاشتراكية (الحزب الشيوعي المغربي القديم). فأما حزبا الاستقلال والتقدم والاشتراكية فهما مكونان اثنان من مكونات التحالف المعروف (الكتلة الوطنية) بجانب الحزب الاشتراكي الأشهر (الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية)، وأما حزب الحركة الشعبية فقد كان خارج تحالف الكتلة الوطنية، بل ربما كان يتحدد باعتباره مغايرا لها، بل وربما مناقضا لها، وعلى كل فقد كان دوما في موقف المعارض لها ولتوجهاتها، ثم إن هذا الحزب الأخير قد كان ليلة الانتخابات التشريعية جزءا من تحالف سياسي معارض لتوجهات كل من الكتلة الوطنية وللحزب الإسلامي. ولأسباب سياسية غير واضحة تماما طل الاتحاد الاشتراكي في المعارضة، ولسبب غير واضح كذلك - من الناحية السياسية الواضحة - غدا حزب الحركة الشعبية جزءا من السلطة التنفيذية بقيادة الحزب الإسلامي، وبالتالي أصبح جزءا مما كان، لأشهر كثيرة، يحمل نعت «الحكومة شبه الملتحية». سار الأمر إلى وضعية يمكن نعتها إجمالا، بحال الحكومة التي يغيب فيها الانسجام المنطقي بين المكونات، وهذا من جهة أولى، وتكون المعارضة في حال من الارتباك وفشل كل محاولات التنسيق من أجل قيام معارضة قوية تكتسب بها الممارسة الديمقراطية السليمة دلالاتها المنطقية ويغيب الخط السياسي الواضح الذي يجعل الحكومة في حال المساءلة الفعلية وليس مجرد ردود الفعل المزاجية والضعيفة. الحق أن المواطن المغربي يشعر بالغياب التام للمعارضة من حيث إنها رصد ومراقبة لعمل الحكومة رصدا ومراقبة عمادهما التوفر على البرنامج السياسي الواضح والقابل للتنفيذ. غير أن ما يضيف إلى المشهد السياسي الحالي في المغرب تعقيدا جديدا، لا بل يجعله في حال تقترب، في المنطق السياسي الطبيعي وفي منظور العقل الغربي، من السريالية السياسية إذا صح هذا النعت، هو الموقف العجيب الذي يقفه من الحكومة حزب الاستقلال، أقدم الأحزاب السياسية المغربية وأشدها هيكلية وتماسكا. ذلك أن تصريحات الأمين العام لحزب الاستقلال تذهب في نقدها للعمل الحكومي إلى مدى بعيد يعجب معه المرء لقبول الحزب المذكور الاستمرار في الانتماء إلى الحكومة الحالية، فكأنما الأمر يتعلق باختيارات تتعارض كلية مع الاختيارات الحكومية في البرنامج المشترك، أساس التحالف الحكومي الحالي، بل وبمغايرة تكاد تكون مطلقة للبرنامج المشترك. لا بل إن الأمر يبلغ من الغرابة مدى أكثر بعدا ومخالفة للمنطق الطبيعي، لما يقره العقل السياسي؛ ذلك أن الحزب المشار إليه يجاهر بانتقاد وزراء ينتمون إلى المجموعة السياسية التي ينتمي إليها الحزب (المكونات المشاركة في الحكومة من الكتلة الوطنية التي لا يزال الحزب يعلن انتسابه إليها ودفاعه عنها إطارا للشرعية السياسية وللعمل السياسي). لا بل إن الغرابة والعجب يبلغان درجة تعلو على الفهم وتخرج عن دائرة المنطق السياسي جملة وتفصيلا؛ ذلك أن حزب الاستقلال، على لسان أمينه العام، يجاهر بالنقد الجارح أحيانا لوزراء ينتمون لنفس الحزب. ثم إن المسؤول السياسي الأول في الحزب (وهو في الوقت ذاته الأمين العام للمنظمة النقابية الكبرى التي تنتمي لحزب الاستقلال - بعد انصرام أشهر كثيرة على انتخابه أمينا عاما للحزب، حيث كان قبل ذلك رئيس المنظمة العمالية المذكورة) قد جعل من الاستعراض التقليدي في عيد الشغل (الأول من مايو) مناسبة لتوجيه انتقادات جارحة للكثير من أعضاء الحكومة ولعملها. هل الأمين العام الحالي لحزب الاستقلال يعكس موقف الحزب السياسي العتيد على النحو الصحيح؟ من الطبيعي أنه لا شيء أكثر مدعاة للجدل من الجواب الذي يقوله هذا الشخص أو ذاك، هذه الجهة أو تلك من مكونات الحزب السياسي الأول في المغرب. غير أن المعطى الموضوعي الوحيد هو أن الأمين العام الحالي لحزب الاستقلال يمثل حزب الاستقلال من الناحية القانونية الصرف، بدلالة النتائج التي انتهى إليها المؤتمر الأخير للحزب والتي حملت الأمين العام الحالي إلى الرئاسة بفارق عن منافسه فارق لا يعدو عشرين صوتا من أساس أزيد من ألفين من المؤتمرين وفي بنية انتخابية بالغة التعقيد، بنية تضرب في التنظيم السياسي بعيدا.

الائتلاف الحكومي الآلي في المغرب، منطقه وتنظيمه وخطابه، يكشف عن أزمة تقوم أسبابها في البناء السياسي للعمل السياسي في المغرب في الحزب السياسي لا في غيره.