سياسة أوباما السورية وعقدة بوش العراقية؟

TT

عندما يموت آخر سوري سيدقق باراك أوباما طويلا ليعرف ما إذا كان قضى بفعل السلاح الكيماوي أم مختنقا من أكل السفرجل. ليس هناك من مبالغة في هذا الكلام؛ فقياسا بسلسلة المواقف المتناقضة التي اتخذها البيت الأبيض من هذا الموضوع، يمكن القول: إنه إذا كان النظام السوري غارقا حتى أذنيه في دماء السوريين فإن أوباما غارق إلى ما بعد أذنيه في «عقدة بوش العراقية»!

لم يكن كافيا أن يسارع السيناتور جون ماكين إلى السخرية بالقول إن الخط الأحمر الذي رسمه أوباما في وجه بشار الأسد إذا استعمل السلاح الكيماوي «مكتوب بالحبر الخفي»، تدليلا على التردد الذي يطبع مواقف البيت الأبيض من هذا الموضوع، فلقد تساءلت «فورين بوليسي»: «كيف يمكن الاعتماد على هذا الخط الأحمر للتعامل مع نظام يمارس على نحو إجرامي القتل الجماعي»؟

واضح تماما أن أوباما كان قد رسم لنفسه هو منذ عامين ونيف خطا أحمر إزاء التدخل في الأزمة السورية، قبل أن يضطر شكلا إلى رسم الخط الأحمر لبشار الأسد. حصل هذا قبل أن يصل الأمر بالنظام السوري إلى استعمال الطيران وصواريخ سكود والسلاح الكيماوي كما أكدت بريطانيا وتركيا، وكان واضحا أن الرجل الذي وصل إلى البيت الأبيض مرتين رافعا شعارات «التغيير»، التي تعني الخروج من تركة جورج بوش الابن الثقيلة في العراق وأفغانستان، لن يقدم على الانغماس في حرب جديدة تدمر كل طروحاته السياسية وتزيد من الأزمة الاقتصادية التي تسمى «الهوة المالية» التي تواجه الاقتصاد الأميركي!

لمعرفة الأسباب الكامنة وراء تصريحات أوباما المتناقضة والمتراجعة بشأن الأزمة السورية، من الضروري قراءة المقابلة التي أجرتها مجلة «رولينغ ستون» نصف الشهرية مع نائب الرئيس جو بايدن، الذي ربط الحذر الشديد الذي يسيطر على السياسة الأميركية حيال الأزمة السورية بالأخطاء التي ارتكبت خلال غزو العراق واحتلاله عام 2003 فهو يقول: «لا نريد تخريب كل شيء كما فعلت الإدارة السابقة في العراق انطلاقا من حديثها عن وجود أسلحة دمار شامل»!

ورغم أن البيت الأبيض حذّر النظام السوري تكرارا من استعمال الأسلحة الكيماوية، فإن أوباما وجد دائما أن «الأدلة ليست صلبة بما فيه الكفاية». وحتى عندما تم العثور على بعض الأدلة ووصلت عينات من التربة والدماء إلى أنقرة ولندن أثبتت أن السلاح الكيماوي قد استعمل كما أعلن في حينه، جاء التعليق من واشنطن مفاجئا ومحبطا «لا نعرف ما إذا كان الأمر قد تم عرضا وعلى يد من النظام أو المتمردين وعندما يتضح الأمر فإن الرئيس سيتخذ الإجراءات المناسبة»!

كل هذا كلام للاستهلاك، فحقيقة الموقف تتجلى في قول بايدن: «نعلم أننا قادرون على معالجة هذا الأمر في حال كنا مستعدين لإنفاق مليارات الدولارات وإرسال أكثر من 160 ألف جندي وتحمل سقوط ستة آلاف قتيل منهم»، في إشارة منه إلى حصيلة التكلفة البشرية والمالية الأميركية للحرب في العراق. والواقع أن أوباما ناقش في نوفمبر (تشرين الثاني) مع رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون مسألة السلاح الكيماوي والخط الأحمر، لكنه لم يتردد في إبلاغه صراحة أن ليس لديه شهية لمناقشة موضوع الخطوط الحمر وما تعنيه ترجمتها العملية على الأرض، وأوجز موقفه بالقول: «لم تتم إعادة انتخابي للبدء بحرب جديدة». هذه العبارة تحديدا هي التي سارعت المعارضة السورية يومها إلى اعتبارها «الضوء الأخضر الأميركي الذي شجع الأسد على استعمال السلاح الكيماوي»!

قبل أسبوعين اضطر البيت الأبيض تحت ضغط الجمهوريين إلى الكشف عن رسالة تشير إلى أن وكالات الاستخبارات الأميركية «توصلت على درجة متفاوتة من الثقة بأن مادة السارين الكيماوية قد استخدمت». أمام هذا اكتفى البيت الأبيض بدعوة الأسد إلى السماح لمحققي الأمم المتحدة بالدخول إلى سوريا لمعرفة من الذي استعمل هذا السلاح، وهو ما أطلق حملة شرسة ضد أوباما على خلفية أنه «يتعامل مع الخط الأحمر بطريقة تضع الهيبة الأميركية على المحك ولا بد من التصرف»، ولكن ذلك لم يغيّر من سياسة التغاضي أو بالأحرى التعامي التي يتبعها أوباما منذ عامين ونيف حيال الأزمة السورية التي تحولت الآن كارثة إنسانية تهدد المنطقة كلها.

لعل أفضل وصف لسياسة أوباما الكارثية حيال المأساة السورية هو قول السيدة ماري سلوتر مستشارة الرئيس بيل كلينتون: «إن المراوغة الكلامية لأوباما بشأن سوريا شبيهة للغاية بمراوغة كلينتون في شأن رواندا عندما فشلت أميركا في التدخل لوقف الإبادة الجماعية»!