الأمن المنفلت والوزير الخطيب

TT

في كلمة غريبة المضمون بمناسبة تخريج ضباط في جهاز الأمن الوطني، قال وزير داخلية الحكومة المقالة في غزة فتحي حماد صارخا بأعلى صوته في المايكروفون: «إن أجهزة الأمن ستراقب كل من يساهم في خفض مستوى الرجولة في القطاع».

استنكر الفلسطينيون في غزة والضفة هذه العبارة؛ بعضهم استخف بها وأخذها على سبيل الطرفة وسخر منها، وبعضهم عزاها إلى خطأ غير مقصود في التعبير، أما المحسوبون على حركة حماس، التي يملك الوزير عضويتها، فقد برروا هذه العبارة المستهجنة بمظاهر استجدت على شباب القطاع، مثل الشعر الطويل وموضة البنطال الجينز الجديدة، التي انتشرت مؤخرا بين الشباب.

ربما لو وقف الوزير عند هذا الحد لما استحق كلامه كتابة مقال، ولاعتبر ما تفوه به هروبا اعتياديا من حالة الفشل في إدارة القطاع، وفرض واقع غير صحيح بأن كل ما يتهدد فلسطينيي غزة هو طول الشعر ومستوى ارتفاع البنطال. ولكن ما لا يمكن قبوله على المستوى الإنساني هو التهديد الذي توعد به الوزير مرتكبي جريمة الشعر الطويل وخطيئة الجينز: «من حاول أن يخترق ثغرة الرجال عليه الترحال.. لا مكان له بيننا ولدينا أساليبنا الخاصة التي سنطبقها بإذن الله».

الوزير يهدد الشباب الغزاوي الذي سطّر أروع نماذج البسالة والصبر والكفاح ضد الإسرائيليين بالطرد من أرضهم، لأن مظهرهم لا يتوافق مع معايير الرجولة من وجهة نظره. أظن أن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو يستطيع أن يشرح لمعالي الوزير أفضل مني مستوى رجولة أهالي غزة الذين وضعتهم حركة حماس في مرمى الصواريخ والقصف من دون خيار منهم، فتقبلوا واقعهم المر بكل شجاعة، وواجهوا عدوهم بالصبر والرضا.

وزير حركة حماس يمارس على الفلسطينيين ما مارسه الإسرائيليون طوال تاريخ صراعهم مع العرب؛ الطرد والتهجير من الأرض.. الإسرائيليون بدعوى أحقيتهم المزعومة في التوطن، والحمساويون بدعوى فرض الفضيلة، وربما غدا ستظهر تبريرات تجعل أهالي غزة معلقين من رقابهم في رافعات بساحات عامة، كما نرى في طهران.

قبل أن يفكر الوزير حماد بطرد الفلسطينيين من غزة، عليه أولا أن يوضح لنا كيف سيتم طردهم؛ هل سيخرجون عبر الأنفاق، أم معبر رفح المهدد بالإغلاق في أي لحظة؟ لأن الخروج من غزة بصعوبة دخولها؛ الخروج بإذن المصريين، والدخول بإذن الإسرائيليين، كما هو حال أي ضيف تستقبله غزة، ولا يغرنكم جوازات السفر التي تهديها حماس لضيوفها، فهي لا تعدو كونها دفتر جيب، وفي أحسن الأحوال بطاقة تهنئة أو شكر. أيضا يهمنا كعرب أن نعرف؛ هل يمكن للمجتمع الدولي اعتبار المطرودين من غزة مشمولين في ملف اللاجئين؟ ويتم ترحيلهم إلى مخيم اليرموك في سوريا أو نهر البارد في لبنان، وبالتالي لهم بند في ملف المفاوضات؟

التهديد بطرد الفلسطينيين عار على حركة حماس، التي يمثلها الوزير؛ لم يسبق لأي شخصية عربية أن ارتكبت مثل هذا الجرم سوى العقيد الراحل معمر القذافي الذي طرد الفلسطينيين من ليبيا، بحجة دفعهم للعودة لتحرير أرضهم.

الشباب الفلسطيني في غزة مثل كل شباب العالم؛ يعيش مرحلته العمرية بكل تحدياتها ومظاهرها التي لا علاقة لها بمستوى معين من الرجولة، ولكنه يختلف عن بقية الشباب بأنه يحيا في سجن اسمه غزة، ليس لأنه محاصر اقتصاديا فقط، بل لأنهم في حالة الحرب أهداف مشروعة للإسرائيليين، وفي حالة السلم يقعون ضحية القمع وكبت الحريات الشخصية وملاحقة السجانين لهم في الشوارع بتمزيق ملابسهم وقص شعرهم. فإن كانت هذه المظاهر البريئة تطعن في رجولة شباب غزة، فماذا يمكن تسمية سلوك رجل أمن يعتدي بالعصا على امرأة في اعتصام نسائي كما حصل العام الماضي؟ هذا هو العار، وهذه هي الجريمة المنكرة.

وزير الداخلية في الحكومة المقالة أمامه تحديات حقيقية تتمثل في الانفلات الأمني الذي وصل تأثيره للجانب الآخر من معبر رفح. تهريب السلاح والمسلحين بين الجانبين يشكل تهديدا للأمن القومي المصري كل يوم، ومهما عوّلت حماس على علاقتها الفكرية والحزبية مع إخوان مصر فإنها لا تستطيع أن تتحكم في حدود ما قد يصل إليه المتطرفون في سيناء، وحقيقة أن غزة هي المتهم الأول الذي ستظل أعين المصريين تترقبه وتحاسبه بلا رحمة.

وليتذكر الوزير أن شباب غزة الذين يتوعدهم بالطرد والحبس هم أولئك الذين تلقوا نيران الصهاينة، ومر بجانبهم شبح الموت مرات عدة؛ فقدوا أحبتهم وهددوا في حياتهم، في حين كان هو وبقية المسؤولين محميين في الأقبية مؤمنين بالحراسة. الغريب أن الوزير تجرأ في الخطبة العصماء نفسها على طلب الدعم المالي والعسكري من الدول العربية! من الدولة التي ستقدم دعما لسلطة قمعية تهدد بطرد مواطنيها من أرضهم؟

كان من الأجدر بسلطة غزة، قبل أن تقدم قائمة بالفروض والأوامر التربوية إلى سكان القطاع المغلوبين على أمرهم، أن تؤدي واجبها تجاههم بخفض البطالة ومحاربة المخدرات وتعزيز اللحمة الوطنية وضبط حدودها، لا أن تحول أهم فئة اجتماعية إلى سجناء بنفس مكسورة، وأرواح مقهورة، وعزيمة منهزمة معتادة على المراقبة والملاحقة والقمع، هؤلاء لن يستطيعوا تحرير الأرض إن كانت حماس تظن أنها تصنع منهم مقاومة. هذا مستحيل، لأن التحرير صناعة الأحرار.