آفاق التغيير بعد «الثورات العربية»

TT

تطرح تجربة الثورات في العالم الفكرة القائلة إن كل الثورات تقود للتغيير، إلا أنه ليس كل الثورات بالضرورة تقود إلى إقامة دولة أو أنظمة ديمقراطية. فأطروحات ما قبل الثورة أو خلالها قد لا يستقيم لها الأمر بعد الثورة، لسبب بسيط وهو أن من يأتي للسلطة بعد ذلك قد يكون إيمانه بالديمقراطية إن هو إلا إيمانا لفظيا، أو أن طبيعة السلطة ذاتها تفرض على من يأتي إليها نزعة الاستفراد أو التسلطية، وهي كما يبدو نزعة متأصلة في الثقافة الشرقية. ومع ذلك فإن من المهم تأكيد حقيقة أخرى، وهي أن إطاحة سلطة ما قد تكون أسهل من إقامة نظام آخر بمعناه المؤسساتي والسياسي. فالقديم لا يمكن طرده بالكامل، كما أن الجديد لا يمكن إقامته سريعا محل القديم القائم. وحتى يتأسس الجديد فإن ذلك لا بد له من فسحة زمنية، ولا بد له من سياقات ثقافية معضدة له. وهي مرحلة تكون في الغالب مصحوبة بقدر من الاهتزازات الهيكلية والفكرية والصراعات السياسية، ولربما الإثنية؛ إذ يبقى القديم ينازع في ذلك أي جديد، لأن نزاعهما يعكس حقيقة النزاع البشري حول تشكيل وتوزيع القوة وحصصها في المجتمع.

أي بمعنى آخر أن الثورات أو الاحتجاجات التي جاءت على المنطقة العربية قد خلقت حالة من حالات الفوضى، وهو أمر طبيعي من حيث إن الإطاحة بنظام وإقامة آخر في الدولة والمجتمع تحدث حالة من الاهتزازات في السياقات التقليدية الحاكمة لفعل الدولة، وفي علاقتها بالمجتمع. وهي اهتزازات تحدث قدرا من الفوضى، وبالتالي الضمور في السلطة، وهو ضمور قد يؤدي في بعض حالاته إلى أن يأتي تصرف الدولة أو أفرادها في شكل أفعال منفلتة من عقال الدولة الحاكمة له، أو أن يأتي معبرا عن قدر من التفكك فيها، أو انحدارا لمستويات ما قبل الدولة، بل إن إيكال بعض مهمات الدولة لجماعات ليست خاضعة لها بالكامل، وإن كانت محسوبة عليها، أحد تجليات هذا الانفلات أو التفكك في السلطة.. وأعتقد أن كثيرا من الدول العربية، قد تعاطت مع موجة الاحتجاجات أو مطالب الإصلاح السياسي والاقتصادي والعدالة الاجتماعية إما وفق المعطى الأمني أو وفق المعطى السياسي التسويفي، الذي إذا ما أقدم على خيار الفعل السياسي فإنه في ذلك لن يتجاوز أطره الشكلية التي لا تقود إلى شكل جديد في العلاقة بين الدولة والمجتمع، تتجاوز فيها الدولة، ولو تدريجيا، قدرا من طبيعتها التسلطية وفعلها السياسي الإقصائي.

إن جزءا من الإحباط، ولربما أحيانا التحسر على الأنظمة العربية السابقة التي بدا التعبير عنها متناميا في الفترة الأخيرة، في بعض الأوساط الفكرية العربية، قد يكون نتيجة لتعثر قدرة الأنظمة الجديدة في مصر وتونس، ولربما اليمن، على التحول نحو نظام ديمقراطي جديد. بل إن الأحداث التي تلت قد أبانت حجم الصراع بين جماعات الأمس. وهي أحداث لم تعكس فحسب صعوبة سرعة الانتقال نحو النظام الجديد، بل أكدت أن الافتقار لقدر من الاتساق القيمي بين الجماعات السياسية الجديدة يضفي قدرا من التخبط والفوضى، ويثير المخاوف من نزعة البعض، وتحديدا الجماعات الإسلاموية، إلى الاستئثار بالسلطة وتعويق تداولها. فاختلاف التوجهات السياسية للقوى السياسية الجديدة المؤثرة في الساحة، وتضخم نزعتها العصبوية ودوغماتيتها، يجعل من أمر الاتفاق فيما بينها مستحيلا. بل إننا بتنا نلحظ وبشكل متصاعد قدرا مما قد يسمى بالتأطير السياسي للمذاهب والطوائف والقبائل، أي قدرة بعض الجماعات والتجمعات السياسية على التماهي في جماعتها الإثنية أو القبلية، بحيث إن الجماعات السياسية توظفها في صراعاتها البينية من ناحية، وفي صراعها مع أو على السلطة من ناحية أخرى.

من هنا فإن المنطقة العربية في عمومها قد دخت مرحلة انتقالية سمتها الرئيسة هي الفوضى التي نشهدها، وهي حالة ناتجة عن أن ركائز النظام القديم القائم بدأت تتداعى في مقابل غياب قدر أوسع من عدم الاتفاق على صيغة جديدة للنظام القادم، ليس فقط في بلاد الربيع العربي، وإنما هو كذلك في البلاد التي لم تأتِ عليها مصاحبات «الثورات العربية»، وبالتالي فإن هذه الدول ستشهد، وتحديدا دول الربيع العربي، قدرا كبيرا أو متوسطا من الصراع بين القوى السياسية والإثنية، أما الدول العربية الأخرى، فإن التلكؤ أو التخوف من الإقدام على إحداث تغيرات سياسية غير مضمونة حساباتها، أو لا يمكن السيطرة عليها، كما في المرحلة السابقة، سيبقى يمثل أحد أهم مصادر الصراع الداخلي بين قوى تدفع نحو قدر أكبر من التغيير، وأخرى ترى في ذلك تهديدا للحالة قائمة، في عالم أصبحت سمته الأساسية تسارع وتيرة التغيير فيه. فلم يعد القول الشائع «الله لا يغير علينا» متسقا مع دخول المجتمع البشري مرحلته الرقمية التي باتت تداعياتها عظيمة في مقابل أنظمة وجماعات بدت قابليتها للتغيير بطيئة بل ومناكفة. لقد تغير الناس كل الناس في المنطقة العربية، إما بفعل التعليم أو بفعل الاختراق الكبير والسريع والواسع لتكنولوجيا الاتصال والتواصل الاجتماعي. وهو اختراق فعل فعله في سياقاتنا الاجتماعية، وفي توجهات واتجاهات الناس الفكرية والسياسية، وهو تغير لم يقابله بشكل مهم تغيرات مهمة في علاقة الدولة بالمجتمع.

إن إحدى أهم وظائف الإدارة السياسية هي إدارة التغيير بالصورة التي تجنب المجتمع، أي مجتمع كان، الهزات المحتملة، إلا أن الوظيفة التي باتت تضطلع بها الإدارة السياسية في المنطقة العربية ليست إدارة التغيير أو التمهيد له، بقدر ما هي المحافظة على وضع قائم في عالم بدت التغيرات فيه أكثر من متسارعة. إن التغييرات لا تأتي في جلها بمنافع للدولة والمجتمع، إلا أن قدرة الدولة على توجيهها ومرحلتها تساعد على تعظيم المنافع وتقليص العواقب.