الأمم المتحدة والجوع والجراد

TT

قبل بضعة أيام أعلنت الأمم المتحدة عن حل لمشكلة الجوع في العالم يتمثل في أكل الحشرات. هذا الاقتراح الرصين من الأمم المتحدة للدول التي أنهكها الجوع يحوي أيضا قدرا كبيرا من التفاصيل. باستطاعة المرء أن يأكل الحشرات كالنمل والجراد والنحل واليرقات للاستفادة من الفيتامينات التي تحتوي عليها، بل وقلي أجنحتها وقرون استشعارها!.

ويتملكني فضول شديد للغاية كي أعرف ما قد يحدث لو جلس أحد مسؤولي الأمم المتحدة الذين قدموا مثل هذا الاقتراح على مائدة مليئة بالنمل والجراد والنحل والعناكب وأجنحة الحشرات المقلية في وجباتهم الثلاث.

هناك مليار شخص بين سكان الكرة الأرضية البالغ عددهم سبعة مليارات يعانون من الجوع، يعيش 800 مليون منهم في الدول النامية، ولا يجد 200 مليون منهم ما يكفي لسد رمقهم.

ويشهد كل عام وفاة سبعة ملايين طفل دون سن الخامسة، وبعبارة أخرى 1000 كل ساعة بسبب الجوع. ويعاني واحد من بين كل أربعة أطفال من سوء التغذية.

ويعاني الصومال واحدة من أسوأ المجاعات منذ 60 عاما، ويأتي على رأس قائمة الدول التي تصارع الجوع. ويقال إن 50000 إلى 100000 شخص ماتوا خلال الأزمة الصومالية، غالبيتهم من الأطفال.

يعيش القسم الأكبر من الأطفال الذين يعانون من سوء التغذية في آسيا في كوريا الشمالية.

لكن فلنلق مزيدا من الضوء على هذه الدول التي تصارع الجوع. فكوريا الشمالية ليست بالدول الفقيرة ولا أرضها بغير الخصبة. والسبب الوحيد في أنها تحمل لقب الدولة التي تعاني أسوأ مشكلات الغذاء في آسيا، أنها تخصص نحو 20 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي فيها والبالغ 29 مليار دولار للإنفاق العسكري، فهي تحتل المرتبة الرابعة بين أضخم جيوش العالم وأكثرها عددا.

ويمتلك الصومال، الذي تتعاظم فيه مشكلة الغذاء، أرضا بالغة الخصوبة. وحتى استقلاله عام 1960 كان الصومال أخصب أراضي الجنوب للزراعة ولم يعتمد على أي دولة أخرى في هذا الصدد. لكن النظام الاشتراكي الذي دمر البلاد وسياسات صندوق النقد الدولي التي ركزت على الصناعة نتج عنها مجاعات واسعة. وبات الصومال اليوم عاجزا عن الاستفادة من أرضه الخصبة. ينطبق الأمر ذاته على الدول الأفريقية الأخرى. والأراضي الأفريقية، الغنية بالمعادن والماس والنفط فقيرة بسبب استمرار «النظام الاستعماري الصارخ»، حيث تقوم الدول الأوروبية باستخراجها واستخدامها، في الوقت الذي يضرب فيه الجوع أبناءها. أضف إلى ذلك الحروب الأهلية التي تفاقم مشكلة الجوع وانهيار هذه الدول. إن إضعاف هذه البلدان، التي تحوي أراضيها كل أنواع الموارد الطبيعية، يخدم مصالح جماعات معينة.

على النقيض من أفريقيا، يبلغ متوسط الطعام الذي يهدره الفرد في دولة مثل ألمانيا 82 كيلوغراما سنويا.

وبحسب التقرير الصادر عام 2009 في صحيفة «الغارديان» البريطانية، تهدر الولايات المتحدة وبريطانيا وحدهما طعاما يكفي أكثر من مليون شخص، أو كل من لا يملكون ما يكفي لإطعامهم.

ووفقا لتقرير نشر في عام 2013، يتم إهدار ما يقرب من نصف المنتجات الغذائية في العالم. فإذا قلنا إن إنتاج العالم من الغذاء سنويا أربعة مليارات طن من المواد الغذائية، فهذا يعني أن هناك ملياري طن من الغذاء يتم إهدارها بكل بساطة.

دعونا ننتقل الآن إلى صناعة الدفاع (التسلح) فـ10 من الأموال التي ينفقها العالم على الأسلحة قادرة على حل مشكلة الجوع. فقد بلغ الإنفاق العسكري الأميركي في أفغانستان منذ هجمات 11 سبتمبر وحدها 1.7 تريليون دولار، وهو ما يكفي للقضاء على الجوع في العالم لـ14 عاما، وحماية الأطفال من كل أشكال المرض على مدى السنوات الـ580 المقبلة.

في ضوء هذه الإحصاءات يبرز المعنى المفزع للحل المقترح للجوع الذي قدمته الأمم المتحدة. المشكلة الأولى هي القيمة. فبسبب وجهة نظر الرأسمالية والمادية المتوحشة، أصبح الفقراء، والمظلومون والضعفاء لا قيمة لهم. فلم يحرك العالم ساكنا إزاء استغلال الدول بشكل منهجي. إن الجميع يعاني من هذا المنظور المروع لنظام يكون الأقوياء فيه هم المصيبين، أما الضعفاء والفقراء فلا وزن لهم. والآن توصي الأمم المتحدة هؤلاء الذين يتضورون جوعا، والذين يحتاجون إلى الحماية والرعاية، أن يأكلوا الحشرات لأنهم لا قيمة لهم في نظام القوة فيه هي الحق.

ينبغي أن يتعرف العالم بشكل أوثق على القيم الأخلاقية الأصيلة والحقيقية التي وردت في القرآن، لا الأصولية والتعصب والتطرف. عندها فقط يمكن استعادة التوازن وأن يصبح الحق قويا مرة أخرى. حينئذ يمكن القضاء على الإسراف - الذي نهى عنه القرآن - ثم القضاء على الحرب - التي نهى عنها أيضا - ثم ننتشل أولئك الذين سقطوا بدلا من أن نزيد من آلامهم، وحينها سيكون هناك أناس في هذا العالم يفكرون في إخوانهم بحب ومودة قبل أنفسهم. ولن ينظر إلى حياة أحد على أنها لا قيمة لها كي تطلب منهم أن يتناولوا الحشرات.

إننا بحاجة لأن نظهر للعالم نظاما يتمتع فيه الجميع بالأمن والأخوة، بغض النظر عن معتقداتهم أو اللغة أو العرق أو الأمة. نحن بحاجة إلى أن نكون أشخاصا يوزعون الحب. نحن بحاجة إلى الوقوف ضد هذه الآيديولوجيات الفكرية الزائفة التي لا تقيم لحياة الأفراد وزنا، وعندئذ فقط يمكننا أن ننقذ الجياع والفقراء والمنبوذين في العالم، وتوضيح زيف فكرة تجويع الشعوب لشراء الأسلحة؛ وكشف الطبيعة المروعة للعقلية التي توصي بأن يأكل الجياع اليرقات.