وصفة النقاش البناء في هارفارد

TT

اشتهرت جامعة هارفارد منذ عقود بأنها تدير أحد أشهر البرامج في العالم التي تدرب القياديين على أصول النقاش والتفاوض. وقد كان خلف هذا المشروع الكبير مؤسسه الدكتور روجر فيشر صاحب الكتاب الشهير «Getting to Yes» الذي وضع فيه مع زميله المحاضر في الجامعة نفسها خمسة محاور رئيسة يمكن أن تقود أي نقاش معقد أو بسيط إلى نتيجة مرضية للطرفين.

وقد استخدمت بنجاح هذه المحاور الخمسة، المدعمة بالدراسات العلمية، في مفاوضات السلام بمنتجع كامب ديفيد 1978، وفي مفاوضات تحرير الرهائن الأميركيين في سفارة بلادهم في طهران إبان الثورة الإيرانية، واستخدمت كما أخبرنا الرئيس الأكوادوري في مفاوضات بلاده وفي غيرها بجنوب أميركا، وذلك حينما كان يحاضر لنا قبل أيام مع مجموعة من زملائه في جامعة هارفارد ضمن برنامج تدريبي مكثف عن فنون التفاوض والإقناع.

وهذه المحاور الخمسة أو ما يسمى «principled negotiation» تنطلق من منطلق رئيس، وهو أن كثيرا من الناس ينقسمون حينما يريدون النقاش أو التفاوض مع آخرين؛ فبعضهم يكون قاسيا على الناس وينسى التركيز على المشكلة، والعكس صحيح، في حين أن النقاش البناء يجب أن يكون فيه صاحبه لينا على الناس وقويا على المشكلة. وهو ما يذكرني بالمقولة الشهيرة: «لا تكن لَيِّنا فتعصر، ولا صلبا فتكسر».

وهذا المنطلق يأخذنا إلى أول محور من محاور النقاش البناء، وهي ضرورة «التفريق بين الأشخاص والمشكلة»، ولا نذيع سرا إن قلنا إن كثيرا من مشكلاتنا في الوطن العربي على جميع الأصعدة تكمن في أننا لا نفرق بينهما، بل صرنا نسأل من قائل المعلومة قبل أن نعلق عليها وإن كانت تحمل معاني عميقة ومفيدة!

والمحور الثاني يدعو إلى «التركيز على دائرة الاهتمامات المشتركة، وليس موقفنا الحالي من المشكلة»our position. إذ تبين، حسب د. روجر فيشر، أنه كلما استمات الإنسان في الدفاع عن أمر هو في الأصل ليس من صلب القضية، تحول هذا الأمر تلقائيا ومن دون أن نشعر إلى أمر أساسي نتشبث به ويمكن أن «يفركش» الحوار أو الاتفاق؛ كما يقول الإخوة المصريون. وهذا ما حدث في القمة العربية الشهيرة عام 1990 حينما تداعت الدول لتحديد موقفها من احتلال العراق لبلدي الكويت، فانقسم المشاركون وارتفعت الشتائم والملاسنات، ثم انفضت القمة من دون الاتفاق على شيء، والسبب إصرار البعض على عدم تقديم حل عربي ورفض تدخل أجنبي، مما اضطر بعض البلدان للاستعانة بالأجانب لتحرير دولة عربية من احتلال أقدمت عليه جارتها العربية!

أما المحور الثالث، فهي ضرورة «ابتكار حلول للاستفادة المشتركة بين الطرفين»، وهذا ما يلين الطرف الآخر ويجعله أدعى لقبول حلنا أو رأينا المُرضي للجانبين. ويدعو المحور الرابع إلى أهمية «الإصرار على استخدام معايير موضوعية».. ولا يختلف عاقلان على أن الموضوعية في المعايير تحفظ ماء وجه الطرفين، فلا يعود الأمر عرضة للمزاجية.

أما المحور الخامس، فهو ما اشتهر باسم «BATNA» وهي اختصارات الحروف الأولى لجملة: «أفضل بديل لما يتم الاتفاق عليه»، بمعنى آخر، لا بد أن تكون بدائلنا حاضرة في أذهاننا أثناء النقاش. على سبيل المثال، لا يعقل أن يدخل الفرد مقابلة وظيفية أو متجرا وليس لديه هامش حدود الراتب والامتيازات أو سعر المنتج المقدم في السوق، حتى يمكن أن يحدد موقفه من النقاش، ويعلم ما الحد الأدنى الذي لا يمكن أن يقبل به. و«الباتنا» مهمة لأنها ترسم أمام ناظري صاحبها حدود خياراته، لا سيما حينما يكون محاوره في وضع أقوى منه، فينسحب مثلا إذا تشبث محاوره أو مفاوضه بالحد الأدنى الذي لا يستطيع أن يقبل به.

والنقاش عموما يعد مسألة صعبة ومعقدة لا تكفيها وصفة قصيرة في مقال، لكنني أنصح كل مهتم بقراءة الكتاب الرائع «Getting to Yes» الذي يقدم لرجال الأعمال والدبلوماسيين والإعلاميين والسياسيين وعامة الناس ممن يتطلعون إلى نقاش وتفاوض بناء يؤثر في محاوريهم ويكسبهم في الوقت ذاته.

* كاتب متخصص في الإدارة

[email protected]