الإمبراطورية الأميركية.. هل تتساقط؟!

TT

إن الإرهاب لا دين له ولا طائفة ولا مذهب، فهو ذو مسببات مختلفة منها الديني والسياسي والاجتماعي والاقتصادي، وهو يعبّر عن نفسه في كل مرحلة تاريخية بحسب معطيات عصره وظروف زمنه.

كان الإرهاب فيما يزيد على عقد من الزمان له واجهة إسلامية سُنية عبر تنظيم القاعدة والتنظيمات المشابهة له، ولكنّ الدول التي واجهته تقف على رأسها بعض الدول السُنية كالسعودية، وحين يجري على نطاق واسع في الغرب على المستوى الأكاديمي أو السياسي تبنّي أن الإرهاب ماركة مسجلة باسم المسلمين السنّة وأن الطائفة الشيعية الكريمة بريئة منه فإن الشواهد والأحداث التي تدلّ على وجود إرهاب شيعي بالمنطق الطائفي كثيرة ومتعددة منذ عقود، وهو يتم برعاية كاملة من الجمهورية الإسلامية في إيران.

الفرق هو أن الجماعات الإرهابية السنية لم تزل منفلتة العقال وقد أصبحت لاحقا مطية سهلة تحركها إيران بينما الجماعات الإرهابية الشيعية تحولت إلى مؤسسات منضبطة تحت راية الجمهورية الإسلامية، وما يجري اليوم في سوريا من تدفق الإرهابيين الشيعة وقتالهم في كل مكان في عرض البلاد وطولها ومجيئهم من شتى البلدان يشير إلى تصاعد في هذا النوع من الإرهاب؛ «حزب الله اللبناني المحتل» يجوس خلال الديار السورية و«ميليشيات الفضل بن العباس» تأتي زرافات ووحدانا من العراق، و«المقاتلون الحوثيون» يتوافدون من اليمن تباعا، وهم جميعا يمارسون أبشع أنواع القتل والتدمير ضد الشعب السوري المغلوب على أمره.

إذا كانت الدول العظمى وعلى رأسها الولايات المتحدة تريد القضاء على الإرهاب فإنها مجبرة - من هذا الجانب - على اتخاذ مواقف أكثر صرامة تجاه ما يجري، وهي بصمتها وتخاذلها عن إدانة الإرهاب الشيعي المدعوم من روسيا وإيران إنما تخلق المصنع الجديد لصناعة إرهاب سني جديد قد يكون أوسع انتشارا وأبشع تأثيرا.

لا أحد يعلم على وجه التحديد ما الذي يدور في كواليس المباحثات الأميركية - الروسية المستمرة منذ زمن، ولكن المواقف والسياسات المعلنة التي لا تخطئها العين توضح ترددا أميركيا مستمرا في مقابل اندفاع روسي حازم.

على الصعيد الإقليمي لم يقصّر أصدقاء الشعب السوري في توفير كافة أنواع الدعم المعلن والخفي للمعارضة السورية وللجيش السوري الحر، ولكن حين يحظى داعمو النظام بالغطاء الدولي الكامل من قبل روسيا لا تجد هذه الدول موقفا مماثلا من الولايات المتحدة.

واقعيا، لم تزل الولايات المتحدة منذ تولي الرئيس باراك أوباما سدة الرئاسة تتجه إلى الانكفاء أكثر إلى الاهتمام بالشأن الداخلي والاكتفاء دوليا في المناطق الساخنة بمشاركات ذات مستوى معين لا تتخذ فيها موقع القيادة للعالم إلا لتتخلى عنه لبعض حلفائها الغربيين كبريطانيا وفرنسا تماما كما جرى في ليبيا ودور قوات حلف الأطلسي في القضاء على معمر القذافي ونظامه.

الصراع الدولي تجاه الأزمة السورية يوضح بجلاء كيف أن الولايات المتحدة التي يفترض بها قيادة الموقف مبكرا هناك لم تزل مترددة تجاهه حتى اليوم، وتصريحات وزير خارجيتها جون كيري توضح حجم التردد؛ فهو مرة يتنازل لروسيا عن نقاش المسائل الملحة في «جنيف 2» كالقوات المسلحة والأجهزة الأمنية ونحوها، ومرة يصرح بأن لا مكان للأسد في أي حل مستقبلي، وهي كدولة عظمى حين تحجم فإن دولا كبريطانيا وفرنسا تقوم بقيادة الاتحاد الأوروبي لتسليح المعارضة السورية، وروسيا الاتحادية بالمقابل تمتلك رؤية وهدفا وقرارات واضحة في دعم نظام الأسد وحمايته وتسليحه.

تاريخيا، سعى الرئيس الأميركي فرانكلين روزفلت إلى مكافحة تيار «الانعزالية» الذي كان له الصوت الأعلى داخل الولايات المتحدة بعد الحرب العالمية الأولى، وقد نجح في ذلك ودخلت أميركا الحرب العالمية الثانية كـ«ترسانة للديمقراطية» كما هو تعبير روزفلت نفسه، وكقائد للحلفاء وكإمبراطورية عالمية جديدة، وهو ما سار عليه بقية الرؤساء الأميركيين بعده كل بحسب توجهه وسياساته وزمنه، فكانوا من روزفلت إلى بوش الابن «اثني عشر قيصرا» كما هو وصف نايجل هاملتون في كتابه «القياصرة الأميركيون»، وثمة شك كبير في أن هاملتون كان سيضيف لهم الرئيس أوباما في ظل السياسات الدولية التي يتبناها.

لقد كان روزفلت وترومان ومن بعد آيزنهاور يحظون باحترام القائدين الروسيين ستالين وخروتشوف على التوالي، ولكن حين التقى جون كيندي خروتشوف عام 1961 خافه كيندي حتى قال نائبه جونسون: «لقد جمّد خروتشوف الدم في عروق رفيقي المسكين من الخوف»، وقال عنه خروتشوف نفسه: «أنا لا أفهم كيندي، ما خَطْبه؟ هل يعجز حقا عن اتخاذ قرار؟ ربما يفتقر إلى العزم»، ولم يزل أمام أوباما الخيار في موازنات القوة الدولية في العالم حين يلتقي نظيره «القيصر الروسي» فلاديمير بوتين في 17 يونيو (حزيران) الحالي أن يكون مثل روزفلت وترومان وآيزنهاور أو يكون مثل كيندي في لقائه مع خروتشوف.

إن الأزمة السورية تعيد تشكيل مراكز القوى في العالم، فهي تشبه كل الحروب التي قادت لتسخين الصراعات الدولية سواء تلك التي كانت في فيتنام أو في أفغانستان أو البوسنة مع اختلاف بعض التوصيفات والمواقف التي يفرضها اختلاف الظروف وتغير المعطيات.

كان الفيلسوف الألماني هيغل يرى أن «أميركا هي أرض المستقبل» و«قد وصف جون آدمز رؤيته لأميركا المستقبل بأنها (إمبراطورية الحرية)». ولم يزل الرؤساء الأميركيون المتعاقبون يؤكدون على قيمة الحرية والديمقراطية في رؤيتهم لدورهم ودور بلدهم في العالم، ولكنّ الصحيح أيضا أن أميركا تخلت مرارا عبر تاريخها الحديث عن هذه القيم وتخلت عن بلدان كانت بأمس الحاجة لمساعدتها ضمن مصالح سياسية وتوازن قوى مع الاتحاد السوفياتي.

أخيرا، فإنه في عام 1994 كتب دونالد بوتشالا قائلا: «إن الإمبراطوريات لا تسقط بل تتساقط»، بمعنى أنها لا تهوي مرة واحدة ولكنّها تأخذ طريقا متدرجا للسقوط، وبالتأكيد فإن الولايات المتحدة كإمبراطورية عالمية لن تسقط في المدى المنظور فلديها من عوامل القوة والاستمرار ما هو أقوى بكثير من عوامل الضعف والاضمحلال، ولكن هذا يجب ألا يلغي رصد بعض مواطن الضعف تلك التي عبّر عنها بمرارة الكثير من الساسة والمثقفين والباحثين الأميركيين قبل غيرهم.