غاندي يبدأ رويدا رويدا

TT

تحدثت بالأمس القريب عن المهاتما غاندي وكيف أوحى له التمييز العنصري في أفريقيا الجنوبية بتبني فكرة النضال اللاعنفي، الجهاد المدني. درس جل ما كتب في الموضوع، ولا سيما ما كتبه تولستوي وتعاليم السيد المسيح (عليه السلام). عاد للهند ولاحظ روح الخنوع والاستسلام التي سادت فيها. كيف يمكنه أن يغير ذلك ويغرس فيهم العزيمة على التحدي والرفض؟

فتح كمحام قدير مكتبا للمحاماة وخصصه لمعالجة قضايا الفلاحين وكل من تعرض للحيف والظلم. شرح لهم حقوقهم من الوجهة القانونية وعرض عليهم التوكل عنهم مجانا لاستحصال حقوقهم. وبعد نجاحه في سلسلة من هذه الدعاوى أخذوا يلتفون حوله ويرون أن بإمكانهم فعلا تحدي السلطة والإقطاعيين وكل أصحاب الجاه. تعاطف معه القضاة الإنجليز وأثنوا على مجهوده في مناصرة الضعفاء والمظلومين. كان هذا مقدمة لنيل الشعبية وثقة الجمهور به، فاستطاع أن يعبئهم لما هو أوسع وأخطر من ذلك.

كانت بريطانيا قد احتكرت تجارة الملح، المادة الضرورية للطبخ في الهند. وعانى فيها الناس من أسعار هذه المادة التي احتكرتها الشركات البريطانية. فشجع أتباعه على كسر هذا الاحتكار باستخراج الملح من ماء البحر. لم يكن في القانون ما يحرم ذلك. فدعا الجمهور للسير من كل القرى والمدن في مظاهرات سلمية نحو البحر والانهماك في استخراج الملح من مائه. وفي هذا الإطار الشرعي كسر احتكار الشركات لتوريد الملح. ثم توجه بمظاهراته لتحدي السلطة في دخول المناطق المحرمة على الهنود. «هذه أرض بلادي ومن حقي أن أمشي عليها». أدى ذلك إلى مصادمات مع الشرطة. ولكنه علم أصحابه على عدم الرد بالعنف على عنف الشرطة. عليهم التمسك بمبدأ الأهمسا (اللاعنف والمحبة). وراحت الشرطة تهوي بهراواتها على المتظاهرين الساتياغراها، ويتلقونها بصبر وعزيمة، بل وبمحبة. يسقطون على الأرض مغمى عليهم. فيحل محلهم آخرون وتستمر العملية التي هزت صورها الرأي العام العالمي وتناقلتها الوكالات. كانت ظاهرة لم ير العالم مثيلا لها من قبل.

قاد مظاهرات أخرى لأغراض اجتماعية، مثلا دخول الأراضي المقدسة التي حرمها رجال الدين على المنبوذين. ثم أخذ يوجه المظاهرات بجانب القرى الإسلامية ليجر المسلمين للمشاركة مع إخوانهم الهندوس، مما نجح فيه تماما لغرض إزالة التفرقة الطائفية بين الهنود.

كان غاندي بارعا جدا في الإعلام والعلاقات العامة فحرص على جذب الإعلاميين ووكالات الأنباء وتخطيط عملياته بما يعطي مناظر مثيرة. أدرك دور الرموز والرمزية في إثارة العواطف. ففي حملته لمقاطعة البضائع الأجنبية والاعتماد على الصناعة الوطنية، دعا لغزل الصوف يدويا ونسج قماش الكاد البسيط ولبسه وأكل المنتجات المحلية فقط. جعل من نفسه مثالا لذلك. كثيرا ما وقف أمام الكاميرات، متوزرا بقماش الكاد الأبيض وبيده المغزل وبجانبه عنزته التي يعيش على حليبها وجبنها.

وكسياسي ماهر، تبنى أسلوب المرحلية. فلم يسع أولا لاستقلال الهند، بل اكتفى بالمطالبة بالمساواة والإصلاحات في ظل الحكم البريطاني، انتظارا للمرحلة الحاسمة لدخول المعركة من أجل الاستقلال.