كباش «تقسيم»

TT

الأشجار والمتنزه ما هي إلا ذريعة لتصفية حسابات سياسية فكرية عقائدية مع رجب طيب أردوغان وحكمه الذي يستمر منذ أكثر من 10 سنوات، وهو قد أعطاهم حتما الفرصة التي يريدونها في الأسابيع الأخيرة..

عندما:

قرر إنشاء مطار إسطنبول الثالث في أجمل بقعة خضراء متبقية في المنطقة.. هناك يقولون إنها بدأت منذ الآن تتحول إلى مكان تنافس عقاري وتجاري بين كبريات الشركات العالمية.

وعندما تحرك لشن حرب جديدة على الكحول ومتناوليه في بلد علماني تعيش فيه شرائح عرقية ودينية واجتماعية مختلفة، دون الرجوع إلى الشارع واستشارته في احتمالات تقبله تشريعات يقول إنها ستزيل آخر ما تبقى من حريات فردية للأتراك بعد الحرب الضروس التي شنها أردوغان على التدخين والمدخنين.

وعندما ارتكب الخطأ الأكبر ليس فقط في اختيار مكان تشييد الجسر الثالث المعلق وسط أجمل بقعة خضراء متبقية في ضواحي إسطنبول، بل في إطلاق تسمية «يافوز سلطان سليم» على هذا الجسر، مقحما تركيا والأتراك في نقاش لم يكن أحد يحتاجه في مثل هذه الظروف، بسبب الحروب التي خاضها السلطان العثماني في شرق الأناضول، مذكرا بصفحات التاريخ التي اقتتل فيها العثمانيون والصفويون والعلويون والأكراد والعرب والمماليك في مشروع إعادة توزيع الخرائط قبل أكثر من 500 عام.

أردوغان إذا لم يلملم الأنقاض وما بعثرته أخطاء حزبه، فعليه ألا يراهن بعد هذه الساعة على استحالة خروج المعارضة من سباتها العميق وعدم قدرتها على تقليص المسافة الشعبية والرقمية بينهما، بل عليه أن يتطلع إلى ما يجري حوله في «العدالة والتنمية» حيث اكتفى البعض بالتفرج مصدوما تاركا رئيسه وحيدا في قلب الهجمات والحملات. بقدر ما سيتحرك أردوغان لإجراء مراجعة جذرية في صفوف أعوانه ومساعديه الذين فشلوا في إدارة الأزمة، فإنه لا بد أن يدقق مطولا في أسلوب وطريقة إصدار القرارات والقوانين وتحديد مشاريع الإنماء والتحديث التي يصر على فوائدها وإيجابياتها وإقرارها بقوة الصناديق التي تمنحه هذا الحق؛ كما يردد دائما. لكن الأهم طبعا هي مراجعة أسلوبه السياسي عندما سارع قبل أيام وهو في قلب المواجهات لترك علامات تعجب واستفهام حول توقيت صدور قرار محكمة الإدارة التي جمدت مشروع توسيع متنزه ميدان «تقسيم» حتى تستكمل الإجراءات القانونية، وإصراره على تقديم البعد «الآيديولوجي» على بقية الأسباب التي قادت إلى الانفجار في قلب إسطنبول، متجاهلا سرعة انتشاره إلى بقية المدن التركية الكبرى مثل فتيل البارود المقترب من برميل المتفجرات.

المحتجون الذين يضمون في صفوفهم العشرات من شباب اليسار القومي والمنظمات المحظورة ويدعمهم حزب الشعب الجمهوري، نجحوا في جلب كثير من المفكرين والمثقفين والإعلاميين والسياسيين الذين لن ينسوا بمثل هذه البساطة مشهد نقلهم إلى المستشفيات للمعالجة من آثار الغاز المسيل للدموع، وهنا ستكون مهمة أردوغان صعبة جدا خلال زيارتهم وإقناعهم بالخطأ الذي ارتكبه البعض وبالمبالغة في استخدام القوة من قبل رجال الأمن الذين لم نعرف بعد نوع الأوامر التي كانت موجهة لهم.

الحديث عن «ربيع تركي» هي نتيجة الحماس والتخوف والصدمة التي يعيشها البعض داخل تركيا وخارجها، لكن تحول ما يجري إلى صيف لاهب في تركيا لن يكون مستبعدا إذا ما ظلت قيادات «العدالة والتنمية» تفشل في التعريف بإنجازاتها السياسية والاقتصادية والإنمائية الكبيرة في أوساط الشعب التركي، وتعطي الفرص للمعارضين والمحتجين لتقديم بعض السلبيات والأخطاء والتلاعب بقدر ومصير الحزب الحاكم بهذه الطريقة.

أردوغان يقول إن هدف البعض من هذه الاحتجاجات هو انتزاع رئاسة بلدية مدينة إسطنبول، كبرى المدن التركية وأهمها، من «العدالة والتنمية» في الانتخابات المحلية المقبلة، لكن أردوغان سيكتشف عاجلا أم آجلا أن أول الأضرار والخسائر التي سيتلقاها، ستكون أبعد وأهم من ذلك إذا لم يقرأ المشهد بطريقة مغايرة.. ففكرة «العدالة والتنمية» بإجراء انتخابات ثلاثية مبكرة مرة واحدة تشمل البرلمان والبلديات واختيار الرئيس الجديد في العام المقبل، ستكون عرضة للتغيير بعد مناقشة سلبياتها ومخاطرها مطولا، لكن الأهم هو عدم استغراب قرار الحزب بسحب مشروع النظام الرئاسي ووصول أردوغان إلى قصر الرئاسة في شنقايا بصلاحيات واسعة، وطيه أمام الأخطاء والهجمات المتزايدة.

في الوقت الذي كنا نناقش فيه أسباب وانعكاسات ما جرى في ميدان «تقسيم»، كانت الأجهزة الأمنية تتحدث عن العثور على شاحنة جديدة محملة بالمتفجرات وافدة من داخل الأراضي السورية.