سوريا.. من خدع من؟

TT

تعجل أناس فرتبوا على حسم معركة القصير رؤية تقول إن الصراع الدامي انتهى لصالح النظام، ويرد طرف مقابل فيقول: بل إن ما حدث ليس إلا خسارة جولة. أما الحرب فهي سجال، وستكون الجولة الأخيرة لنا.

ومهما تكن التحليلات والاستنتاجات، فإن الحقيقة الإجمالية المرة والمرعبة هي أن الصراع الدموي في سوريا قد أسفر عن مائة ألف قتيل (في بعض التقديرات)، وأن 54 في المائة من البنية التحتية قد دمر، وأن سبعة ملايين سوري قد شردوا من بيوتهم، إما خارج سوريا، وإما داخلها، وأن هؤلاء المشردين يعانون أوضاعا عصيبة ومهينة في المسكن والمطعم والعلاج والكرامة الإنسانية.

فمن المسؤول عن ذلك كله؟!

والسؤال الأهم هو: مَن خَدَع مَن في هذه القضية الكبرى؟ إن حسابات أساسية قد بنيت على أن الولايات المتحدة الأميركية ستتدخل وتحسم الموقف لصالح المعارضة السورية.

وصحيح أن الموقف الأميركي قد تبدى - في مرات عديدة - وكأنه يتبنى هذا الخيار، أو هذه القاعدة في حسابات الصراع، لكن معظم المعطيات الموضوعية الأميركية لم تكن تشير إلى ذلك.

ما هي هذه المعطيات الموضوعية؟

1) إن الديمقراطيين - بقيادة أوباما - قد قرروا ألا يكرروا مغامرات المحافظين الجدد في أفغانستان والعراق مثلا.

2) في الولايات المتحدة تدهور اقتصادي ومالي.. ويقول خبراء أميركيون إن لهذا التدهور أسبابا كثيرة، في مقدمها أو من أهمها: سبعة مليارات دولار أهدرت في حربي أفغانستان والعراق، وهو مبلغ هبط بحركة النمو درجات عديدة إلى أسفل، وتسبب في عجز الميزان التجاري كما تسبب في ازدياد أرقام البطالة.. و.. و.. و..

3) أدركت القيادة الأميركية الحالية أن حروب المحافظين الجدد في العراق وأفغانستان لم تتسبب في الخسارة المادية الجسيمة وحسب، بل تسببت في «خسارة معنوية هائلة» للولايات المتحدة في العالم الإسلامي، بمعنى أن تلك الحروب زادت صورة أميركا تشوها وقتامة لدى الرأي العام الإسلامي.

ولما كان أوباما – بالذات - قد وعد بتحسين صورة بلاده في أعين مسلمي العالم فهو يحاذر من أن يهزم هدفه بخوض حروب جديدة في العالم الإسلامي.

ولا جدال في حق الولايات المتحدة في أن تبني موقفها على معطيات موضوعية تتعلق بأمنها القومي ووضعها الاقتصادي، وبصورتها في العالم، بيد أن الجمهورية الأميركية لم تكن واضحة بالقدر الكافي مع حلفائها. بل لوحظ أنها كلما امتعض حلفاؤها من تذبذب موقفها، سارعت إلى إطلاق تصريحات مثل: على الأسد أن يرحل.. الأسد فقد شرعيته.. إلا أن موقفها العملي لم يتسم بالجدية في التدخل العسكري (نحن نصور الحالة ولا نقترح).. وهذا نوع من «الخداع السياسي»، وهو خداع ضخم - في حقيقة الأمر - لكن حجبته عن العيون الرغبات والأماني في التدخل الأميركي المباشر والحاسم: الآن الآن.. وليس غدا!!

من زاوية أخرى، وفي سياق الحسابات الخاطئة أيضا، فإن بعض هذه الحسابات اعتمد على «القياس الخاطئ»، فقد قيس حال سوريا على ما جرى في تونس ومصر على سبيل المثال.

وأخطر ما يقع فيه التفكير - السياسي وغير السياسي - هو تورطه في القياس الخاطئ، أو القياس بلا حسبان الفروق كما يقول المناطقة والفلاسفة.

ونقول بصراحة كاملة: ما كان الحراك الشعبي في كل من تونس ومصر بمستطيع الإطاحة بمبارك وبن علي لولا تخلي الجيش في البلدين عن الرئيسين السابقين، ولولا انحياز الجيشين في البلدين إلى الحراك الشعبي، على حين أن الجيش السوري ظل مواليا لبشار الأسد على مدى الصراع الذي ظل محتدما على مدى أكثر من عامين.. وها هنا تتبدى أسئلة جوهرية، كان ينبغي أن تطرح ويجاب عنها منذ البدء:

أ) ما هي العقيدة التي تربى عليها الجيش السوري؟

ب) ما مدى ولاء الجيش السوري لقيادته السياسية؟

ج) في صراع طويل: إلى أي مدى زمني يمكن أن يظل الجيش السوري متماسكا: كله أو معظمه؟

ثم تصعيدا - وتنويعا - لمنظومة الأسئلة الواجبة كان يتعين طرح أسئلة أخرى: كمفاتح سليمة للحسابات الصحيحة.. من أسباب سقوط صدام ومبارك وبن علي والقذافي أنهم لم يكن لهم حلفاء دوليون أقوياء يدافعون عنهم، أو كان لهم حلفاء تخلوا عنهم بطريقة مفاجئة: لهذا السبب أو ذاك.. وهل يقاس على ذلك وضع بشار الأسد الذي برز الروس والصينيون كحلفاء أقوياء له يدعمونه، وكأنه جزء من ركائزهم الاستراتيجية العالمية؟

في ظل ذلك: ما هو المستقبل والمصير؟

من دون لف ولا دوران، ولا لت ولا عجن نقول: هناك مآلان اثنان للأزمة السورية:

1) أن يستمر الصراع الدامي ويشتد ويحتد حتى تهلك سوريا، ومن فيها، وما فيها.

2) أن يتعزز خيار الحل السياسي الذي تبنته أميركا بالتوافق مع روسيا حول عقد مؤتمر دولي سمي «جنيف 2».

وفي حال تعزز هذا الخيار ليس أمام المعارضة السورية إلا أن تركض بهمة وحرص ودأب في مضمار مباشرة التحضير للانتخابات منذ الآن (بناء على مقولتهم إنها تكافح من أجل سوريا ديمقراطية ذات انتخابات حرة).. ومن صميم التحضير للانتخابات:

1) تحميل حزب البعث (المنافس الرئيس في أي انتخابات قادمة) مسؤولية ما جرى ويجري في سوريا من فقر وتخلف وكبت وسجن وتشريد إلخ.. وبين يدي المعارضة في هذا الشأن «ملف ضخم» لا يتطلب تزيدا ولا افتعالا ولا كذبا.. وإنما يتطلب - فحسب - مهارة في التوظيف والإخراج وجاذبية المداخل إلى نفوس الناخبين السوريين.

2) اعتبار النازحين السوريين في الخارج - وهم بالملايين - «قوى انتخابية هائلة» ستؤثر - بعمق - في نتائج الانتخابات: التشريعية والرئاسية.. واعتبار هؤلاء النازحين قوى انتخابية يستوجب التعامل معهم بهذه الذهنية من الاحترام والمساعدة والتفقد المستمر والراقي لأحوالهم وأحوال عائلاتهم من دون من ولا أذى ولا استغلال سياسي مبتذل يفسد الهدف من كونهم قوى انتخابية كبيرة.