وهم وإيهام وتهاويم

TT

«تكلم لكي أعرفك» مقولة قديمة وصحيحة. من المستحيل أن يتكلم شخص بغير أن تعرف درجة ثقافته ومنهجه في التفكير وربما أخلاقياته أيضا، ولقد تكلم الرجل في قصر الرئاسة بعد أن تقمص عدة شخصيات في وقت واحد، وكان السؤال الذي يبحث المجتمعون عن إجابة له هو: ما هو السلوك الواجب اتخاذه مع إثيوبيا بشأن السد الذي بدأت خطوات بنائه؟

وما يجعل الإجابة صعبة هو أنه لا أحد يعرف على وجه اليقين مدى خطورته على مصر أو فائدته إن كانت له فائدة. ولكن المتكلم وهو زعيم سياسي تكلم عن مشروع جديد هو كيفية إخافة إثيوبيا والإثيوبيين، واقترح خطة جديرة بأن تتحول إلى مسلسل تلفزيوني مسلٍ للغاية، منها أن نسرب أخبارا تقول: إن مصر بسبيلها إلى شراء طائرات تموين في الجو، يا للذكاء.. وبذلك «يتوهمون» أن الطائرات المصرية قاذفة القنابل تخطط لضرب هدف بعيد ما يتطلب تموينها في الجو، بالطبع الهدف معروف، عندها يشعرون بالرعب ويأتون صائحين: خير يا جماعة.. مش حانبني السد.. خلاص.. إذا كان السد ها يفسد العلاقة بينا.. بلاش منه..

المتكلم هنا يكشف عن آليات في التفكير يشاركه فيها عدد كبير من النخبة السياسية والثقافية، لا يوجد واقع أو حقائق على الأرض، فقط توجد الأوهام والإيهام والتهاويم، كل ما تريده سأقوم بإيهامك به، وسأوهم به العدو والصديق أيضا، سأوهمك بأنني أفعل كذا وكذا بينما أنا عاجز عن فعل أي شيء. سأوهمك بأنني مهتم بمياه النيل، وبأنني مهتم بما سنفقده منها، وبأنني أقوم بعمل مشاريع عملاقة، وأوهمك بأنني أقوم بتعليم أولادك، وأوهمك بأنني أبحث عن قتلة شبابك، وسأقوم بإيهامك بأن الأمن مستتب وأن البلد حالها عال العال. سأوهمك بأنني معارض، وسأوهمك بأنني مؤيد. سأوهم النظام بأنني معه، وسأوهمك أنت بأنني ضده.

ولو أنني كنت حاضرا جلسة الأوهام هذه لزايدت على الجميع وقلت: الزميل الذي يتكلم عن تسريب أخبار بشراء مصر لطائرات تموين من الجو، ما زال يفكر في معطيات الحرب العالمية الثانية، توجد الآن محطات بنزين فضائية تستخدم في تموين الصواريخ بينما هي في طريقها إلى المريخ، ليس هذا فقط.. سوف يعلن قريبا عن محطات سولار فضائية لتموين المايكروباصات الطائرة، هذه المحطات تابعة لـ«ناسا» هيئة أبحاث الفضاء الأميركية، يعني تابعة للحكومة الأميركية، وأنا أعتقد أن علاقتنا الطيبة بأميركا سوف تتيح لنا الحصول على موافقتها بسهولة، وحتى إذا لم توافق، فنستطيع أن نملأ الطائرات «بجراكن» بنزين تتيح لها الطيران من دون توقف إلى أبعد مكان في أفريقيا ثم العودة سالمة.. وهناك عمليات ليست مكلفة، أن تتسلل - مثلا - مجموعة عمل إلى إثيوبيا وتختبئ في الغابات وتخرج ليلا لتقول لأي مسؤول: بِخْ.

عندها تصلهم رسالتنا، ويتأكدون من أننا جادون في معارضتنا لإنشاء هذا السد. هناك بالطبع خطط أخرى لن أعلن عنها بعد أن عرفت أن هذه الجلسة مذاعة على الهواء.