العقم الفكري و«سوفت وير» الإخوان

TT

نعرف عن الإقصاء الفكري، ولكن ماذا يعني الإخصاء الفكري؟ الإخصاء الفكري باختصار هو أنك تمارس عملية التفكير، وربما تستمتع بها ولكن من دون إنجاب، أي أن نتيجة هذه الممارسة الفكرية هي مزيد مما يهيئ لنا أنها أفكار، ولكنها أفكار غير مفيدة وغير بناءة. هي مجرد تفكير للتفكير، ولكن نتيجة هذا التفكير شبه معدومة. هذا ما يحدث في مصر في ظل حكم «الإخوان المسلمين»، حيث انتهى «الإخوان» من عملية الإقصاء ودخلوا على مرحلة الإخصاء.

بدأ مشروع «الإخوان» في مصر بمحاولة تفكيك الثقافة القائمة وتحويلها إلى ثقافة إخوانية، عن طريق إقصاء كل من هو ليس من «الإخوان» في وزارات التعليم والثقافة والإعلام، أي في الوزارات التي تشكل العقل الثقافي المصري. كما هو واضح في حالة الاعتصام الذي يقوم به المثقفون في مصر في مكتب وزير الثقافة الإخواني الجديد، والرافض لممارساته التي تقصي العديد من كبار المثقفين في مصر. الإقصاء في وزارات التعليم أيضا يسير على قدم وساق. حيث يجري ليس فقط عملية إحلال وتجديد لقيادات وزارة التعليم، بل إحلال رجال «الإخوان» بدلا من القيادات التعليمية القائمة، ومعه أيضا تجديد المناهج ليحل الكتاب الإخواني بدلا من الكتاب السابق، أي أن يدخل سيد قطب وحسن البنا وزينب الغزالي مقررات التاريخ والمطالعة في المدارس الابتدائية حتى الثانوية. ممارسات كلها تصب فيما يمكن تسميته بتغيير «السوفت وير»، أو البرامج المحملة في عقول المصريين، إلى سوفت وير الإخوان.

سوفت وير الإخوان الذي تركبه المدارس ووسائل الإعلام الحكومية في عقول المصريين هو ما يمكن تسميته بالإخصاء الفكري، أي الترويج لأفكار غير قادرة على الإنجاب، بمعنى أن يستمتع الفرد بما يظنه تفكيرا أو أفكارا ولكن المحصلة صفر كبير في النهاية. سوفت وير الإخوان تدشنه أيضا وزارة الثقافة التي يعتصم كبار المثقفين ضد وزيرها لليوم السادس حتى الآن.

سوفت وير الإخوان أو البرنامج المراد تركيبه في عقول المصريين من خلال المدرسة والتلفزيون والصحيفة ووزارة الثقافة هو المرحلة الثانية بعد الإقصاء الجسدي للعاملين بالوزارات التي تنتج أو تعلم التفكير، وتحويلها إلى مجرد أدوات لترديد مقولات «الإخوان»، حفظا وتلقينا يؤدي في النهاية إلى الإخصاء الفكري أو الإحساس بأن الشعب يفكر، ولكنها أفكار لا تنجب أفكارا أخرى؛ لأنها عقيمة أو أفكار خصي.

السائد في مصر الآن هو تحبير وتسويد للأوراق من خلال مقالات تقرأها للوهلة الأولى فتجد فيها كل عناصر التشويق والرغبة، ومتى ما انتهيت من قراءتها وسألت نفسك ماذا قرأت؟ تكتشف أنك لا تذكر شيئا من المقال؛ لأنه مقال خصي لأفكار خصي لا يتوالد ولا يولد عندك ردة فعل. مقال يشبه المقال ولكن لا فكرة فيه.

ما ينطبق على الكتابة ينطبق على برامج التلفزيون، حيث تستمع لأكثر من ساعة لحوارات «التوك شو»، وقد تستمتع بعبارة هناك أو مناوشة كلامية هناك، وما إن تمضي الساعة وتسأل نفسك عما سمعت وماذا تتذكر مما قيل طوال كل هذا الوقت تكتشف أنه لم يعلق شيء في رأسك؛ لأن «التوك شو» هو من النوع الخصي، كلام متراص إلى جوار بعضه لا ينجب ولا يولد ردة فعل لديك. أما الزبد فيذهب جفاء، ولا شيء هناك يمكث لا في الأرض، ولا في الذهن من كل هذا التكرار السقيم لكليشيهات تلوكها الألسنة كل يوم.

عملية الإخصاء الفكري حدثت سريعا في مصر لأن فيها مقايضة قاسية قد تمت ما بين الإقصاء والإخصاء. فمثلا لو أن إنسانا نام يوم 25 يناير (كانون الثاني) 2011، ثم استيقظ الآن ونظر إلى الشاشات المصرية لما عرف أن ثورة قد قامت. فالوجوه على الشاشات من المذيعين ومقدمي برامج «التوك شو» هم ذات الوجوه ونفس الأشخاص ممن كانوا يظهرون على تلفزيونات النظام القديم، واليوم يظهرون على تلفزيونات الحكومة والتلفزيونات الخاصة أو الفضائيات الخاصة. والفضائيات تبدو وكأنها مأخوذة ليس من معنى الفضاء، وإنما من معنى «الكلام الفاضي» أو الكلام الخصي. الوجوه نفسهاعقدت صفقة من أجل البقاء أساسها «نقبل بالإخصاء الفكري من أجل استمرار وجوهنا على الشاشات». إذن بالنسبة للرجل الذي نام يوم 25 يناير وصحا اليوم لا شيء تغير في مصر المحروسة: الوجوه على الشاشات هي الوجوه ذاتها والأقلام في الصحف هي ذات الأقلام، ولكن بأفكار خصي ومقالات خصي تمنحك الإحساس بالتفكير وبنشوة الكتابة، ولكنها وجوه ومقالات غير قادرة على الإنجاب.