ارتدادات «تقسيم»

TT

رجب طيب أردوغان الذي يحارب على أكثر من جبهة، والذي كان يعرف منذ أشهر بأنه ملزم بتحصين المواقع وزيادة عدد المتاريس بسبب أكثر من أزمة داخلية وخارجية، يبدو أنه قرر مغادرة القلاع وشن هجومه الواسع ضد مجموعات المحتجين والمتجمعين في متنزه «غزي» ومن يدعمهم من وسائل إعلام ورؤوس أموال وسياسيين يتركونه بين خيارين أحلاهما مر: التنحي، أو الذهاب إلى انتخابات مبكرة في البلاد.

كثيرون هم الذين لهم حسابات شخصية وسياسية وعقائدية واقتصادية لم يصفوها مع أردوغان الذي «يستأثر» بالسلطة هو وحزبه منذ أكثر من 10 سنوات، وحكومة العدالة والتنمية التي تعرف أن هذه المحاولات لن تتوقف بل على العكس ستزداد كلما قاومت ونجحت في التصدي لهذه الهجمات المباشرة أو عبر وكلاء، تعرف أيضا أن الحرب المعلنة ضدها تدور رحاها تحت شعارات في غاية الاستفزاز أهمها: «أسلمة الدولة» و«تقييد الحريات الفردية» و«بيع ما تبقى من ممتلكات حكومية للقطاع الخاص» و«إقحام تركيا في سياسة الأحلاف والتكتلات الإقليمية».

أردوغان خيب آمال المراهنين على تراجع في مواقفه وإعطاء الفرصة للتهدئة أو الهدنة مع المعتصمين منذ نحو الأسبوعين في ميدان «تقسيم» أو المتعاطفين معهم، ولم يأخذ بالنصائح والتوصيات المقدمة حتى من أقرب أعوانه ونائبه بولنت ارينش الذي حاور المتظاهرين ونقل مطالبهم إلى أردوغان الذي اختار بدوره ردها لأن فيها الكثير من محاولات ابتزاز الحكومة من قبل جماعات هامشية لا تمثل سوى نفسها؛ كما قال.

هو يعرف أن المسألة تتجاوز قطع بعض الأشجار في متنزه عام، وأن التصعيد سيقود المحتجين للمطالبة بتنحيه وإسقاط الحكومة إذا ما قدم لهم ما يريدونه من عزل محافظ مدينة إسطنبول أو رئيس بلديتها أو كبار ضباط الشرطة الذين يقودون عملية مواجهة الاحتجاجات. هي ليست «بروفة» ميدان التحرير، لكنها أبعد من أن تتوقف عند التضامن مع الأشجار والطبيعة، فهم سرعان ما سيحولونها إلى قضية التضامن مع المتضامين مع الأشجار وحماة البيئة في دمشق مثلا الذين نصح نظامهم المواطنين السوريين بعدم الاقتراب من الأراضي التركية «لأن الحرب الأهلية على الأبواب فيها».

هم يهتفون في «تقسيم»: «ارحل يا رأس المال المعولم»، وأردوغان يهتف بإعلان الحرب على من يحرضهم ويمولهم من إعلاميين وكتاب وفنانين وأصحاب مصارف يفتعلون الأزمات ويضخمون الأحداث. أردوغان يرفض أن يكون تحت رحمة مطرقة المحكمة الإدارية في إسطنبول التي دعت لوقف أعمال الترميم والتوسيع في الميدان، وهو يرجح سندان القواعد الشعبية لـ«العدالة والتنمية» لتحريكه في سائر أنحاء تركيا كما فعل مؤخرا في أضنة ومرسين وأنقرة لإيقاف من يريد تهديد حكمه عند حده.

أردوغان يعرف أن الخيارات محدودة أمامه ما دام أنه رجح ألا يحاور المعتصمين في ساحة «تقسيم». لذلك تراه يركز في خطبه الأخيرة على ضرورة إلحاق الهزيمة القاسية بالمعارضة التي لا تحترم قرار أكثر من 21 مليون مواطن صوتوا في الانتخابات الأخيرة لصالح «العدالة والتنمية»، وتحاول أن تعتاش على افتعال أزمات أمنية وسياسية بعدما عجزت عن الوصول إلى ما تريد عبر صناديق الاقتراع.

أردوغان، الذي يقول إنه يرفض كل الضغوطات وإن من يرد تصفية حساباته مع الحكومة فإما عليه انتظار 7 أشهر حتى موعد الانتخابات المحلية المرتقبة، أو أن عليه محاولة إسقاطها دستوريا تحت سقف البرلمان بحجب الثقة عنها، دعا مناصريه للاستعداد لأكبر مهرجانين شعبيين يعد لهما الحزب في منتصف الشهر الحالي في مدينتي أنقرة وإسطنبول لتجديد الثقة بحكومته وإجراءاتها، لكنه ومن هناك قد يحمل لنا مفاجأة الدعوة لانتخابات مبكرة إذا ما شعر أن الفرصة باتت مواتية لهزم المعارضة بالضربة القاضية قبل أن تفوز عليه بالنقاط.

أردوغان يشعر أنه ملزم بالإقدام على هذه الخطوة حتى ولو كان الثمن باهظا ويصل إلى درجة الانتحار السياسي له ولحزبه، فهو لا يريد أن يتحول إلى «مكسر عصا» أو فرصة للمعارضة السياسية لتسترد أنفاسها بالمجان وعلى حساب طرف ثالث يدخل على الخط.

فهو يعرف أن أهم ارتدادات ميدان «تقسيم» لا يمكن التعامل معها سوى بتلقين المعارضة الدرس الذي يتركه وحيدا حتى عام 2023؛ الذكرى المئوية لإعلان الجمهورية التركية الحديثة.. يطرح الدستور الجديد الذي يريده وينهي أهم أزمة سياسية في تاريخ البلاد تحكمت بمسار العلاقة بين تركيا وأكرادها، ويطرح النظام الرئاسي الذي يدافع عنه وسيحمله بصلاحيات واسعة إلى قصر الرئاسة في شنقايا.