مثالية في غير موضعها

TT

لدى الصحافيين التزام مهني تجاه الفكرة التي ترى أن كثرة النقاشات أمر صحي، ولذا نتعاطف غريزيا مع مسربي المعلومات، لكني متشكك بشأن بعض مزاعم إدوارد سنودن، متعاقد وكالة الأمن القومي الشاب، الذي سرب معلومات سرية بشأن برامج المراقبة التي تقوم بها الوكالة إلى صحيفتي «واشنطن بوست» و«الغارديان».

وصف سنودن تصرفه بعبارات مثالية، فقال في مقابلة مع صحيفة «الغارديان»: «أنا على استعداد للتضحية، لأنني لن أسمح كصاحب ضمير حي للحكومة الأميركية أن تدمر الخصوصية، وحرية الإنترنت والحريات الأساسية»، لكن من الصعب بالنسبة لي أن أعتبره بطلا.

ما أثار قلقي هو أن سنودن تحدى سيادة القانون، وبرنامج الوكالة للمراقبة الذي قرر الكشف عنه قانوني، بمعنى أنه جرى إقراره من مجلس النواب وتتم مراجعته بصورة دورية من قبل لجان الاستخبارات. وقد أشرف عليه قضاة في محكمة مراقبة الاستخبارات الخارجية. وقد حكمت هذه المحكمة في عام 2008 ضد شركة تحدت القانون.

قد يرد سنودن بأن الكونغرس والمحاكم لم يكونوا حازمين أو متيقظين بما يكفي في إشرافهم، وأن وكالة الأمن القومي أساءت استخدام سلطة المراقبة على نحو يشكل خطورة. أو قد يقول إن ما قام به كان استجابة لقانون أخلاقي أعلى، أو أن الكونغرس كان يفسر الدستور بشكل خاطئ. هذه المزاعم سيجري اختبارها في النقاش التالي، لكن ينبغي علينا أن نحذر بشأن تأييد الادعاء بأنه لا غضاضة في انتهاك القوانين لأنك تتصرف وفقا لسلطة أعلى.

تحمل قضية سنودن الكثير من أوجه التشابه مع منشق وكالة الاستخبارات المركزية فيليب آغي، الذي نشر مذكراته عام 1975 تحت عنوان «داخل الشركة: يوميات ضابط في وكالة الاستخبارات المركزية»، التي ضمت أسماء والأسماء الحركية لعشرات من عملاء الوكالة الذين عمل معهم آغي. وكتب في مقدمة الكتاب «عندما التحقت بوكالة الاستخبارات المركزية كنت مؤمنا بالحاجة إلى وجودها، لكني بعد 12 عاما من العمل في الوكالة أدركت أخيرا كم المعاناة التي تتسبب فيها. لم يعد بمقدوري الوقوف مكتوف اليدين». وتوفي آغي عام 2008 في كوبا، التي طلب اللجوء إليها.

قالت وكالة الاستخبارات المركزية في ذلك الوقت إنها عانت من خسائر باهظة نتيجة لما قام به آغي، لكنها لا تزال قائمة بالعمل على نحو جيد. قد يرى البعض أن الوكالة عدائية وتستخدم القوة المميتة اليوم أكثر مما كان آغي يحلم به. في هذا الإطار ينبغي علينا أن نتشكك في فعالية كاشفي الأسرار والمزاعم بأن الكشف غير المصرح به سيتسبب في ضرر لا يمكن إصلاحه، فعادة ما تبدو هذه المزاعم مبالغا فيها.

أكد جيمس كلابر، مدير الاستخبارات الوطنية التي تشرف على وكالة الأمن القومي، أن ما قام به سنودن من الكشف عن مراقبة اتصالات الإنترنت الأجنبية كان عملا «متهورا»، وأن ضررا طويل الأجل ولا يمكن إصلاحه قد ينجم عن الكشف عن قرار المحكمة الذي يفوض جمع بيانات المكالمات الهاتفية من فيريزون. وسوف يدرس الكونغرس والمحاكم هذه المزاعم، لكن كيف يمكننا كمواطنين أن نقيمها؟

أعتقد أن كلابر على صواب عندما أشار ضمنيا إلى أن برامج المراقبة الإلكترونية هذه هي أفضل أداة أميركية لمحاربة الإرهاب. وقد يكون صحيحا أيضا أن كل كشف عن القدرات الأميركية يضعف هذه الميزة، بإبقاء خصوم مثل «القاعدة» على علم بقدراتنا التجسسية. ويتوقع أن يؤدي هذا الإعلان إلى مواجهة الشركات الأميركية والحلفاء الأجانب صعوبة في التعاون.

للحصول على مزيد من الأدلة حول كيفية تناول «القاعدة» للتسريبات بشأن تقنيات المراقبة، لا عليك سوى قراءة رسائل أسامة بن لادن التي عثر عليها في مخبئه في آبوت آباد عندما قتل يوم الثاني من مايو (أيار) 2011. كان يعلم مساعديه كيف يتملصون من المراقبة الجوية («تحركوا في ظل السحب الكثيفة») ومراقبة غسل الأموال («التخلص من الحقائب التي كانت فيها النقود لأنها قد يكون مثبتا فيها رقاقة»).

ما أدركه بن لادن جيدا كان الحاجة إلى تجنب رقابة وكالة الأمن القومي لهاتفه واتصالاته عبر الإنترنت، فقد توارى وكانت كل اتصالاته تجري عبر رسوله الخاص. كانت تلك هي الوسيلة التي تمكن من خلالها من الاختفاء بعيدا عن الأنظار لخمس سنوات، ولم يترك أي أثر رقمي.

قد يقول البعض إن قضية بن لادن تظهر أن جهود وكالة الأمن القومي كانت غير مثمرة، وأن الإرهابيين أكثر منا ذكاء، لكن جمع الاستخبارات يعتمد على الحقيقة البشرية أنه حتى أذكى البشر يرتكبون أخطاء ساذجة. لقد تناسوا مدى قوة وانتشار النظم الأميركية، وربما كان ذلك السبب في أن هذه البرامج لا تزال مصدر قيمة.

لقد أصيبت أميركا بهاجس الأمن بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) بصورة أضرت بها. لكن هذه التجاوزات أدت بالكونغرس إلى إعادة هيكلة برامج المراقبة حتى تكون قانونية وخاضعة للسيطرة، وهذه البرامج القانونية هي التي كشف عنها سنودن.

* خدمة «واشنطن بوست»