سيادة لبنان

TT

سؤال يقض مضاجع بعض اللبنانيين الحريصين على استقرار وطنهم: هل يندرج قصف الطيران السوري بالصواريخ بلدة عرسال اللبنانية في سياق ملاحظة أحد قيادي حزب الله أن حدود «سايكس – بيكو» سقطت بسقوط بلدة القصير في أيدي قوات الحزب والنظام السوري؟

لِمَ لا؟ في نهاية المطاف، اللبنانيون والسوريون شعب واحد في بلدين وجزء لا يتجزأ من «أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة». وما يجوز التعامل به مع السوري يجوز مع اللبناني أيضا.

إذن، لماذا كل هذا الاستغراب لتلقي بلدة عرسال مقطعا «قوميا» من مقاطع الرسالة البعثية الخالدة؟ بل لماذا كل هذا الهلع على خرق سوريا لسيادة لبنان... وسيادة لبنان مخروقة أصلا من الداخل قبل الخارج؟ أي منطق سياسي يجيز لدولة تسمح لأحزاب، بل ولعائلات، بالاستقواء على مؤسساتها الأمنية والعسكرية وتحديها في عقر دارها، أن تتحدث عن سيادة ساهمت هي نفسها في هدرها؟

من حيث المبدأ، من حق لبنان أن يلجأ إلى كل الهيئات الإقليمية والدولية ليشكو خرق سيادته وحرمة أراضيه، ولكن من حق هذه الهيئات، ومن حيث المبدأ أيضا، أن تسأله: ماذا فعلت، على مر السنين، لصيانة هذه السيادة؟ ألم تحتضن، رسميا، أبرز منتهكيها وتذهب إلى حد تسليمهم قرار لبنان السياسي والعسكري؟

مهما كان تأثير لعبة الطوائف والمذاهب على الشأن اللبناني الداخلي فمن أضعف الإيمان أن لا يبلغ حد إهدار هيبة الدولة، ناهيك بإلغاء وجودها في بعض المناطق «المحظوظة».

مع ذلك، وحتى في حال رفض منطق «مكره أخاك لا بطل» مبررا لتآكل الدولة في لبنان، لا يجوز إعفاء ما يسمى بـ«الأسرة الدولية» – وتحديدا الأسرة الغربية فيها – من مسؤولية التعامل بجدية ومسؤولية مع التوجه السوري الحثيث لتحويل ثورة شعبية داخلية إلى أزمة إقليمية، واستطرادات دولية... لا لشيء إلا لضمان بقاء نظام سياسي لا يختلف اثنان على توصيفه بالأوتوقراطي.

إذا كان البعض في لبنان وسوريا وإيران اعتبر أن سقوط القصير في أيدي ميليشيات حزب الله، المدعومة بقوات النظام السوري، يشكل انتصارا مبينا على كل قوى الشر والاستكبار في العالم، فإن تنامي دور حزب الله (إيران عمليا) في صياغة قرار دمشق العسكري يضع النظام السوري في مواجهة مباشرة مع إسرائيل في وقت لا تخفي فيه إسرائيل متابعتها عن كثب لتوسع النفوذ الإيراني في سوريا... ما يعني، عمليا، أن الأزمة السورية دخلت مرحلة زعزعة استقرار الشرق الأوسط بأكمله وليس فقط «السيادة» القُطرية لبعض دول الجوار. وبعد «سابقة» قصف عرسال اللبنانية لم يعد مستبعدا أن يشكل استمرار تدفق اللاجئين السوريين على لبنان والأردن مبررا لمواصلة النظام السوري نقل أزمته الداخلية إلى دول الجوار.

من هذا المنظور تأخذ الحالة السورية بعدا إقليميا ودوليا يستوجب، كحد أدنى، موافقة الأسرة الدولية بأجمعها على إقامة مناطق عازلة داخل سوريا.

عرسال، «وما بعد عرسال»، امتحان جدي لمدى التزام الديمقراطيات الغربية، والأميركية تحديدا، استراتيجياتها الدولية قبل شعاراتها العقائدية. والسؤال الذي يطرح نفسه اليوم بإلحاح هو: إلى متى تستطيع الإدارة الأميركية تحمل ما يفرضه بالقوة ائتلاف الأوتوقراطيات المتبقية في القرن الحادي والعشرين (إيران وروسيا والصين) من تحجيم لنفوذها في منطقة لا تخفى على أحد أهميتها الاستراتيجية والاقتصادية؟

إذا كانت التسريبات المنسوبة إلى مسؤولين أميركيين عن احتمال موافقة الرئيس باراك أوباما فرض حظر جوي على مناطق معينة في سوريا – وربما تسليح الثوار السوريين «المعتدلين» - توحي ببعض الأمل في تحول جدي في موقف الإدارة الأميركية من الثورة السورية، فذلك الأمل لا يعود إلى التطورات الميدانية في سوريا بقدر ما يعود إلى اهتزاز النفوذ الأميركي في الشرق الأوسط بأكمله، بما في ذلك تركيا، نتيجة الغياب الطويل لقرار واشنطن تجاه الحالة السورية.