غني لي.. شوي شوي

TT

من الأمور التي أهواها، والتي تحيرني كذلك بعض الشيء هو: (الغناء)، ومن سوء حظي أن أدائي ملخبط، وطبقات صوتي مهزوزة، لهذا لم أتمكن من أن أحقق حلم حياتي بأن أكون مغنيا في يوم من الأيام، (ورضيت من الغنيمة بالإياب) - بمعنى أنني عرفت حجمي وقبلت أن أكون مستمعا جيدا - ومن هذه الناحية، أي ناحية الاستماع، (فخذوا ولدا)، ففي أي حفلة غنائية، أستجمع كل قواي العاطفية والنفسية والصوتية وحتى العضلية لو لزم الأمر، وفي الوقت نفسه أتخلى نهائيا عن قواي العقلية، وأكون في تلك الحفلات من أشرس المشجعين والمتحمسين بكل الوسائل المتاحة من تصفيق وترديد وتصفير وهتاف، وقد يتخلل ذلك شيء من الرقص على الواقف في بعض الأحيان.

الغناء بالنسبة لي هو النعمة اللطيفة التي اقتحمت أيامي وجعلتها نوعا ما مستساغة، رغم ما يكدر صفو هذه الأيام من المزعجات والمنغصات والمفجعات والمبكيات.

وعلمت أخيرا أن الأطباء في بريطانيا أدرجوا أخيرا (الغناء) كعلاج مضمون لمساعدة المرضى المصابين بمشكلات في الرئة مثل الربو والتهاب الشُعب الهوائية وانتفاخ الرئة، إذ إن الأبحاث بينت أن الغناء يمكن أن يخفف ضيق التنفس ويحسن بشكل كبير نوعية الحياة، وقال الطبيب المسؤول عن قسم التنفس في مستشفى (رويال برومبتون) في لندن، إن المرضى وجدوا هذا العلاج مفيدا - انتهى.

والذي أعرفه أن الغناء وُجد قبل الآلات الموسيقية، وكان أول أمره أن استعمل الإنسان يديه مصفقا وفمه مصفرا، ثم اتخذ الطبول ونحوها، ثم الناي وما يشبهه من آلات النفخ، وكانت وظيفتها في البداية لا تزيد على مصاحبة الغناء وترديده، ثم استقلت بعد ذلك واستعملت وحدها في جميع الأغراض الموسيقية.

وبحكم أن أهل البادية في جزيرة العرب تحديدا هم من أفقر شعوب العالم في الآلات الموسيقية، فليس عندهم سوى (الربابة) ذات الوتر الواحد، يستخدمونها في غناء ما يسمى بلحن (المسحوب) فقط، وبما أن القليل منهم من يملك ربابة، لهذا اكتفى الغالبية العظمى منهم بـ(حناجرهم) يقطعون الفيافي والقفار بالغناء بما يسمى (الهجيني)، وما أكثر ما رددته معهم، وهو على فكرة له عدة ألحان يختلف غربه عن شرقه، وشماله عن جنوبه.

هذا عن البادية، أما الحضر والقاطنون في القرى، فدخل في غنائهم الطبل والدف وبعضهم المزمار، ولاحظت أن إخواني من المنشدين الإسلاميين في هذه الأيام، هم ما شاء الله كأنهم قد اتبعوا تعليمات مستشفى (رويال برومبتون) من دون قصد منهم، لهذا أشاهدهم - حرسهم الله - عندما يصدحون على القنوات الفضائية الإسلامية، بصدورهم العريضة الممتلئة لا يشكون من أي ضيق تنفس ألبتة، بل بالعكس فالشُعب الهوائية لديهم سالكة إلى أبعد الحدود، فالهواء يدخل ويخرج منها كأنه تيار جارف.

وهم من دون أدنى شك يختلفون عن تلك المرأة التي كانت مسافرة برحلة داخلية في أميركا، وعندما (قربعت) لها عدة كؤوس من المسكر، أعاذنا الله منه، بعدها استخف بها الطرب، وأخذت تصم آذان الركاب بغنائها المزعج، مرددة أغنية المطربة (وتني هيوستن): سأحبك دائما. وعندما حاولوا إسكاتها من دون جدوى، فما كان من الطيار إلا أن يهبط اضطراريا بأقرب مطار، ليعتقلوها وينزلوها من الطائرة وهي ما زالت تغني.

صحيح أنني أحب الغناء، ولكن ليس إلى هذه الدرجة.

[email protected]