عالم الدهشة؟

TT

لم تعد القضية أن العالم يتغير بسرعة مثيرة، ولكن لأن هذه السرعة باتت تمنع القدرة على القياس، ولا حتى فهم ما الذي يريده الناس حقا لأن هؤلاء تغيروا بدورهم ولم تعد مطالبهم مفهومة. أكتب بعد ثلاثة أيام من الاضطرابات في البرازيل، التي اتسعت حتى شملت مائة مدينة، ولا أحد يعرف ما الذي سوف يحدث بعدها. السبب المعلن والذائع أن الجماهير البرازيلية ثائرة لأن استضافة البرازيل لكأس العالم لعام 2014 جعلتها تنفق إنفاقا هائلا خلال فترة وجيزة لإعداد الطرق والمطارات والاستادات الرياضية وكل ما يخص كأس العالم من إعداد إعلامي سوف يجعل اسم البرازيل يرفرف في السماء السابعة للعالم كله لبضعة أسابيع. هذا يوم البرازيل ولا شك، فلا يوجد مثل كرة القدم ما يلهب خيال البرازيليين والمعجبين بكرتهم في الدنيا كلها. ولو حدث ذلك منذ بضعة عقود لما اختلف الأمر وكان البرازيليون سوف يشعرون بالفخر والحبور والسرور لأنهم لن يستضيفوا كأس العالم فقط، وإنما لأنهم سوف يفوزون به أيضا. ولكن كأس العالم أتت هذه المرة في ظرف مختلف وهو أن البرازيل صارت في مقدمة الدول الصناعية في العالم، فلم تعد الدولة تلك البلد الذي فيه كثير من لاعبي الكرة الحفاة الذين يمررون الكرة بمهارة عجيبة، فقد صارت دولة صناعية من الدرجة الأولى، وارتفع مستوى المعيشة، وبات فيها سياسيون من أمثال كاردوسو ولولا وليس حفنة من الجنرالات الذين يحكمون بالعنف والقهر. تغيرت البرازيل وباتت من الدول الكبرى، وهي الخيار الأول لكي تحصل باسم أميركا الجنوبية على مقعد دائم في مجلس الأمن، وقبل ذلك وبعده فهي دولة عضو في مجموعة جديدة صاعدة في العالم نعرف بالـ«بريكس» (Brics) التي تضم البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب أفريقيا على الترتيب.

لماذا يثور البرازيليون إذن حينما جاءتهم كرة القدم ومعها مكانة عالمية اقتصادية وسياسية عالية؟ الإجابة يمكن أن تكون سهلة، فهناك فساد، والمواطنون يريدون فوزا بكأس العالم ولكن دون أن تؤدي مشروعاته إلى التخلي عن مشروعات أخرى يعتبرها الناس أكثر أهمية. هكذا قيل، وقد قيل من قبل عن اليونان التي أفلست ربما بسبب الدورة الأولمبية التي عقدت فيها في مطلع القرن، ولا تزال تعاني منها حتى الآن وهي التي كانت سببا في تحقيق قفزة في البنية الأساسية اليونانية لم تكن لتعرفها لولا الدورة الأولمبية.

على كل الأحوال فإن اليونان ثائرة الآن رغم ما حققته من مكاسب في الدورة الأولمبية، ولحقت بها البرازيل التي تعلم أنها سوف تحصل على مكاسب صافية من كأس العالم، وفي ما بينهما جرى الأمر ذاته في تركيا بينما كثرة في العالم - من بين العرب خاصة - تحسدهم على ما حققوه. وقبلهما جرت ثورة صغيرة في الهند، ولكنها محددة هذه المرة على الفساد، رغم أنه جرى والناتج القومي الإجمالي في الهند يصل بها إلى ما لم تصل إليه من قبل، وهي في ذات الوقت صارت قبلة «السوفت وير» في العالم. ما هي الحكاية إذن؟ ولماذا يثور الناس؟ قيل إن السبب هو الاستبداد، فلماذا تكون الثورة في بلدان ديمقراطية؟ وقيل إن السبب هو الفساد، ولكن لماذا تقوم القيامة بينما هناك نظم كثيرة للمحاسبة والتقييم جارية بالفعل؟ شرور العالم لا يمكن أن تنتهي، والذنوب والمعاصي جزء من الطبيعة الإنسانية، وكل ما يستطيعه الإنسان هو محاولة الحد منها والتقليل من آثارها من خلال قوانين وأنظمة إذا زادت عن حدها، فقد يثور الناس لأنهم سيعجزون عن العمل والحركة.

الحقيقة هي أننا لا نعرف، وربما كانت أقرب الإجابات أن ما نراه أشبه بما جرى عام 1968 عندما قامت الثورات الطلابية والشبابية في الدول المتقدمة والغنية والديمقراطية فكانت حركة الحقوق المدنية في أميركا وثورة الطلاب في فرنسا. كانت حرب فيتنام قد حركت الخوف من العسكرة الكبرى للدول المتقدمة في ظل الحرب الباردة، كما كان جيل الحرب العالمية الثانية يطبق بأنفاسه وأفكاره ونظم تعليمه على ما أتى بعدها من أجيال. هل جاءت هذه الثورات مبكرة هذه المرة في دول رغم أنها كلها كانت صاعدة اقتصاديا وسياسيا فإنها لم تحرز بعد ما أحرزته الدول الغربية؟ وهل سبب السرعة هو ذلك التقدم التكنولوجي الرهيب الذي جعل التواصل بين شرائح اجتماعية بعينها سهلا ومتاحا بحيث إن أقل الأنات يمكنها أن تصبح صراخا عاليا في سرعة مخيفة حتى ولو لم يسمع له صوت إلا ساعة الانفجار.

جرى في القاهرة مؤخرا تحليل لحركتي «تمرد» المعارضة للحكم في مصر، و«تجرد» المؤيدة للرئيس محمد مرسي. وقام التحليل ليس على المكون الاقتصادي والاجتماعي، وإنما على حركتها في شبكات التواصل الاجتماعي حيث الانتشار المتراكم من خلال مجموعات وجماعات في سرعة وجيزة. كان الأمر أشبه بالدمدمات التي تظهر في خلفية أفلام الإثارة قبل أن يظهر الوحش المخيف، أو تخرج الطبيعة في واحدة من مشاهدها الغاضبة. وبالطبع لا ندري الآن ماذا سوف تكون النتيجة السياسية لهذا التحليل، وعما إذا كان العالم الافتراضي سوف يتطابق مع العالم الحقيقي، وموعدنا هو الثلاثين من يونيو (حزيران) على أية حال. ولكن أيا كانت النتيجة فإن المؤكد هو مولد عالم جديد غير الذي نعرفه، فهو افتراضي وحقيقي في نفس الوقت لأنه يشكل أفكارا ووجدانا في ما يتعلق بالقضايا العامة.

المدهش حقا هو أننا لم نعد نعرف ما هي القضايا العامة التي يثور عليها الناس، هناك إشارات متعددة للأزمة الاقتصادية هنا أو هناك، وهناك حديث عن أولويات غير صحيحة كما في الحالة البرازيلية بين حاجات الناس واحتياجات كأس العالم، وهناك أيضا أحاديث عن الاضطهاد السياسي وسوء استخدام السلطة، ولكن كل ذلك يظل زائغا وسط شعارات عامة مثل «العدالة الاجتماعية» أو «الكرامة الإنسانية»، وفي كل الأحوال لن تعلم أبدا ما هو البديل للسياسات القائمة، بل إن الثوار لا يزعجهم أمر قدر الحديث عن البدائل. هناك حالة من السخط والقلق والضيق وأن العالم لا يسير كما ينبغي له أن يكون، والجائز أنه نتيجة الطبيعة السنية للساخطين والغاضبين فإن الصبر في تأمل الأشياء ليس من الأمور الحميدة، بل إن هناك سخطا إضافيا عليها لأن التفكير يعقد الأمور أكثر مما ينبغي!