وسائل إعلام تمارس التضليل

TT

كان هتلر فاشيا، ولذلك كانت ألمانيا كذلك. لم يسأل أحد ملايين الألمان المعارضين للفاشية المقيمين في ألمانيا عن آرائهم. كان ستالين شيوعيا، ومن ثم كان السوفيات كذلك بالمثل. لكن ماذا عن ملايين الروس الذين تجرعوا كؤوس المعاناة تحت حكم الشيوعية؟ هل سمعت من قبل عن ثورتهم ضد الشيوعية؟ كلا.. لأنه لم يكن من المتاح بالنسبة لهم أن يجعلوا أصواتهم مسموعة. لم تكن وسائل الإعلام خاضعة مطلقا لسيطرتهم. إنهم فقط يقرأون «البرافدا» ونشأوا على تلقي تعاليم ماركس من التلفزيون، أو الاستماع لخطاب هتلر في الإذاعة.

نحن مختلفون. بإمكاننا الدخول على شبكة الإنترنت من هواتفنا الجوالة. وبوسعنا أن نخبر العالم بأسره أشياء وأن نصل لأي معلومات نريدها وقتما نشاء. هذا أمر جيد بالطبع، لكنه من القوة بالدرجة الكافية أيضا لإطاحة حكومات وإغراق اقتصاد، بل وحتى تمزيق أوصال أمم.

تظهر أنظمة مضللة عدة تهدف لخداع عامة الشعب في أوقات التوترات. ويعرف هذا باسم التضليل. تحت تأثير التضليل، قد يخرج مواطن يجلس صامتا في منزله إلى الشوارع، ويجد نفسه وسط حشد مكتظ يضرم النيران في السيارات. وربما يصبح مؤيدا عنيفا لمظاهرات لا يدري هدفها. إن لوسائل الإعلام تأثيرا قويا.

يصف عالم الاجتماع الأميركي، ريفرز، بشكل جدير بالملاحظة، وسائل الإعلام بأنها «حكومة ثانية أو أخرى» (ريفرز، 1982: 7-20).

كانت واحدة من أكثر المنظمات التي سمعنا عنها في وسائل الإعلام التركية إبان المظاهرات التركية التي استمرت على مدار ثلاثة أسابيع هي «أوتبور». كانت «أوتبور» منظمة شبابية لعبت دورا رئيسا في انقسام يوغوسلافيا، وفي الثورات «الملونة» في أوروبا الشرقية والقوقاز ووسط آسيا وفي تنظيم المظاهرات في نيويورك من موقع «تويتر». لقد سمع اسم «أوتبور»، التي تمول من قبل الصندوق الوطني للديمقراطية التابع لوكالة الاستخبارات المركزية الأميركية، في تركيا لسببين: أولا، أنها كانت حركة منظمة، والثاني أنها أقيمت من خلال مواقع تواصل اجتماعي مثل «تويتر».

في واقع الأمر، كان كل شيء يحدث أمام أعين هؤلاء الذين يتابعون مواقع التواصل الاجتماعي. كان هناك أفراد وصفوا الحكومة بأنها ديكتاتورية وأرادوا انقلابا، وقالوا: «نحن لا نعبأ بما إذا انفصلت الدولة، طالما تغيرت الحكومة»، والذين كانوا أعضاء في جماعات شيوعية أحدثوا أكبر المشكلات إبان تلك الأحداث. ولكن المشكلة كالتالي؛ كان بعض الناس يستمع إليهم بإنصات شديد. أنتجت بعض الصحف الأجنبية البارزة عناوين أخبار تتحدث عن «مذبحة» استنادا إلى تقارير مغلوطة على موقع «تويتر». ربما تكون الوسيلة التي تمكنت من خلالها وسائل الإعلام العالمية من إنتاج تقارير لم يتحقق من صحتها.

نشرت «سي إن إن إنترناشيونال» صورة لمسيرة مؤيدة للنظام شارك فيها أكثر من مليون شخص ووصفتها بأنها «مظاهرة معارضة للنظام في تركيا». هل تعتقدون أن هذا كان خطأ؟ كلا على الإطلاق. أرسل مسؤولون حكوميون وممثلون من الصحافة التركية تحذيرات إلى «سي إن إن إنترناشيونال» عبر وسائل متعددة. بالطبع سمعت «سي إن إن»، التي تعلم بظهور أي صحيفة جديدة في تركيا وجعلها الموضوع الذي يحتل صفحة غلافها على مدار الأسابيع الثلاثة الماضية، تلك التحذيرات. غير أنها لم تجد غضاضة في إبقاء الخبر على صفحتها الرئيسة لما يقرب من يومين، وهي فترة طويلة، إذ ان أفعال التحريض قد تنتشر على نطاق واسع.

كانت ألمانيا مثالا شائقا. استخدمت المستشارة الألمانية ميركل لغة غريبة في انتقاد الحكومة التركية، بينما أطلقت صحيفة ألمانية يومية سيلا من الإهانات ضد رئيس الوزراء التركي.

دعونا نشر بين الأقواس إلى أن مصرفا ألمانيا بارزا حقق ربحا قيمته 187 مليون ليرة تركية (96 مليون دولار) في بورصة إسطنبول إبان المظاهرات. توضح كلمات جوزيف غوبلز، وزير الدعاية السياسية في عهد هتلر، الكثير: «الناس يصدقون الأكاذيب الكبيرة بشكل أسرع من تصديقهم الأكاذيب الصغيرة. إذا كررت كذبة، فسوف يصدقها الناس في نهاية المطاف».

ماذا يحدث عندما يصدقونها؟ دعونا نستمع إلى إيفان ماروفيك، زعيم «أوتبور»: «لا شيء يحدث (عفويا) في التخطيط لعمل ثوري! ربما يبدو أن الناس قد تدفقوا فجأة إلى الشوارع. لكن تلك نتيجة التحضير الدقيق الذي استمر لأشهر بل لأعوام! إن كل شيء يبقى تحت السيطرة الكاملة، حتى الوصول لنقطة بعينها، وإلى أن يجري تنظيم الاحتجاجات والمظاهرات. لكن عندما تصل إلى تلك النقطة، يصل كل شيء إلى نهاية خلال بضعة أسابيع!» (ريفولشن يو، «فورين بوليسي»، 16 فبراير/ شباط 2011).

من ثم، عندما يصدق الناس تلك الأكذوبة الكبرى، تندلع الثورات. تستلزم فرضية روكفيلر أن «تصبح الدول المائتان في العالم اليوم عما قريب ألف دولة»، أي تفكك الدول؛ كارثة مثل الفاشية يمكن أن تلقى ترحيبا من شعب دولة، أو ربما يصبح الناس عبيدا للشيوعية من خلال دعاية لينينية.

هذا هو نطاق التضليل الذي عمل كمخطط للثورات البرتقالية.

بالطبع، كان لهذا التضليل تأثير مدمر في مظاهرات ساحة «تقسيم». لكن توقعات المحرضين لم تحدث. لم تكن هناك مذبحة في الشوارع أو ثورة دموية. تبدو الأمور هادئة في تلك اللحظة. ويتمثل أحد أسباب ذلك في أن وسائل الإعلام قد وظفت مجددا بشكل فعلي. تم تحذير المتظاهرين الشباب السلميين بسرعة ضد المحرضين وخططهم التدميرية. وسرعان ما أدركوا أن «أهدافهم ليست مماثلة لأهدافنا». من المهم توفير معلومات دقيقة بشفافية وفاعلية. غير أن ثمة أمرا آخر يحتاج إلى التعلم؛ ألا وهو الحب.