لا انقلاب على بشار الأسد قبل القناعة بسقوطه «لا محالة»

TT

حسب «التايمز» اللندنية، في عدد سابق، فإن «الغرب»، ومن ضمنه الولايات المتحدة، قد تبنى خطة، يبدو أنها لم تعد سرية، لتشجيع كبار الحلقة الضيقة المحيطة بالرئيس السوري بشار الأسد على الانشقاق والانقلاب على رئيسهم ليلعبوا دورا في بناء سوريا الجديدة. وعلى ذمة هذه الصحيفة العريقة والمعروفة باتزانها، فإن قادة «مجموعة الثماني» قد وعدوا كبار الجنرالات والشخصيات البارزة في أجهزة الأمن والقوات المسلحة السورية بأنهم سيحصلون على ضمانات كافية، إنْ هم قاموا بمثل هذه الخطوة الانقلابية.

ومما يؤكد جدية هذه المبادرة، التي بقيت مجرد خبر مثير في هذه الصحيفة البريطانية الوقورة ولم يجرِ التطرق إليها في أي وسيلة إعلامية أخرى، أن «التايمز» نفسها قد نسبت إلى رئيس الوزراء البريطاني، ديفيد كاميرون، أنه قال إن قادة «مجموعة الثماني» قد اتفقوا خلال قمتهم الأخيرة في آيرلندا الشمالية على إقناع كبار المسؤولين السوريين الموالين للرئيس السوري، الذين باتوا يدركون أن بشار الأسد زائل لا محالة، بضرورة الانقلاب عليه كي لا تسقط سوريا في مستنقع الفوضى الذي سقط فيه العراق.

وحقيقة، إن هذا يدل، إن صحت هذه المعلومات، على أن هذه الدول الثماني، التي غير معروف ما إذا كانت روسيا من بينها أم لا.. والمؤكد أنها ليست من بينها وأن العدد يقتصر على سبع دول فقط، على أنه لم يعد هناك أي أمل بانعقاد مؤتمر «جنيف 2» وأي أمل بتحقيقه أي تقدم فعلي في حال انعقاده، والسبب كما قالت «التايمز» البريطانية هو إصرار الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، على تحدي الضغوط الغربية التي تمارس عليه لحمله على التخلي عن دعم بشار الأسد والاستمرار في مساندته.

وإزاء هذه الصحوة المتأخرة لهذه الدول الغربية، ومن بينها الولايات المتحدة التي بقيت مترددة وغير قادرة على اتخاذ موقف جدي من المفترض أن مصالحها الاستراتيجية في الشرق الأوسط والمنطقة العربية تتطلبه، فإنه يمكن القول: «في الصيف ضيعت اللبن»؛ إذْ إن مثل هذه الفرصة كانت ممكنة، وإنْ على نطاق ضيق في البدايات عندما أصيب نظام بشار الأسد بالارتباك وعندما لم تكن بعد قد خلصته الانشقاقات الفردية، إن على مستوى كبار وصغار الضباط وإن على مستوى الأفراد، من كل غير الموالين له ولنظامه وتركت له قوات مسلحة وأجهزة أمنية مسيطرا عليها بصورة عامة لأسباب، بالدرجة الأولى، طائفية.

إنه ضرب من الخيال، أن يكون هناك تفكير منطقي وجدي من قبل الولايات المتحدة، ومعها الدول الأوروبية المعنية بهذا الأمر، بعد عامين وأكثر من التصفيات المتلاحقة التي لجأ إليها هذا النظام والتي تسببت فيها الانشقاقات الفردية إنْ داخل الجيش والقوات المسلحة وإنْ في الأجهزة الأمنية السورية، وهنا ومع التقدير والاحترام لكل الذين تبنوا تلك العملية التي قتل فيها عدد من كبار المسؤولين العسكريين والأمنيين ومن بينهم آصف شوكت، الذي كانت قد قيلت عنه روايات غير مؤكدة كثيرة، فإنه لا يمكن إلا ترجيح أن نظام بشار الأسد نفسه هو الذي قام بهذه العملية، وأن الهدف هو قطع الطريق على محاولة انقلابية، ربما كانت قيد التحضير والإعداد.

إن المؤكد، وهذا يعرفه المطلعون من قرب على كيفية انتزاع حافظ الأسد السلطة والحكم من بين أيدي رفاقه البعثيين في انقلاب نوفمبر (تشرين الثاني) عام 1970 الذي أطلق عليه اسما تجميليا خادعا هو: «الحركة التصحيحية»، أن الجيش السوري قد خضع، بدءا بانقلاب الثامن من مارس (آذار) عام 1963، مرورا بحركة الثالث والعشرين من فبراير (شباط) عام 1966، وانتهاء بهذه الحركة التصحيحية آنفة الذكر، لعمليات «تطهير» متلاحقة قد أوصلته إلى هذا الذي وصل إليه؛ أي تحوله إلى جيش طائفي يتحكم فيه الضباط العلويون، من أصغر وحدة عسكرية في قوات الاحتياط والخدمة الإلزامية وحتى قيادته العليا ورئاسة أركانه.

لقد جاء تدفق الشبان العلويين، الذين كانت تغلق في وجوههم الوظائف الحكومية والذين اتجهوا بأغلبيتهم إلى حزب البعث بعد اغتيال الضابط البعثي الدمشقي اللامع عدنان المالكي في عام 1955 على أيدي من ساد اعتقاد أنهم ينتمون إلى الحزب القومي السوري، على الكليات العسكرية ليعزز سيطرة لاحقة لأبناء هذه الطائفة على الجيش السوري وعلى الأجهزة الأمنية السورية. وحقيقة، إن هذا هو ما جعل انقلاب الثامن من مارس عام 1963 يبدو كأنه انقلاب علوي، كان من أهم رموزه محمد عمران، الذي جرى اغتياله بقرار من حافظ الأسد في طرابلس اللبنانية في عام 1972، واللواء صلاح جديد الذي أودعه حافظ الأسد مع رئيس الدولة الدكتور نور الدين الأتاسي والكثير من القيادات الحزبية والعسكرية زنازين «المزة» الشهيرة، وبقي فيها إلى أن اغتالته الأمراض مثله مثل الكثير من رفاقه. وهذا ينطبق أيضا على حركة الثالث والعشرين من فبراير التي أوصلت حافظ الأسد إلى وزارة الدفاع، بالإضافة إلى قيادة سلاح الجو، وذلك مع أنه كان في بريطانيا ومعه ثلاثة آخرون في مهمة لا تزال غامضة وغير معروفة في فترة الإعداد لهذه الحركة، التي يرى حتى بعض كبار الضباط الذين قاموا بها من حزبيين مدنيين وعسكريين أنها استكملت سيطرة «العلويين» على سوريا، ولم يعد إلا قبل هذا الانقلاب، الذي أحدث أكبر وأخطر انقسام تنظيمي وسياسي في حزب البعث، بأربع وعشرين ساعة.

كان حافظ الأسد قد تحالف مع صلاح جديد بعد انقلاب مارس عام 1963 إلى أن انتهى من محمد عمران، ثم بعد حركة فبراير عام 1966 بدأ بالحفر تحت قدميّ حليفه هذا إلى أن تمكن عمليا من تهميشه وإبعاده عن مراكز القرار والتأثير، وخاصة في الجيش والقوات المسلحة، في عام 1968، وهكذا إلى أن تمكن من القيام بحركته التصحيحية بعد نحو عامين بانقلاب أبيض نفذه في وضح النهار، فأصبح يسيطر على كل شيء بعدما وضع كل منْ من المفترض أنهم رفاقه في السجون والمعتقلات ليقضوا في زنازينها سنوات طويلة.

والمهم هنا، هو أن حافظ الأسد، ومع أنه كان قد استعان بـ«ديكور» سني من بين رموزه، كل من عبد الحليم خدام الذي أصبح نائبا له، ومصطفى طلاس الذي كاد يصبح وزيرا للدفاع إلى الأبد، وحكمت الشهابي الذي أصبح بعد هذه الحركة التصحيحية رئيسا للأركان، فإنه خلال سنوات حكمه جعل «الجيش العربي السوري» واقعيا وعمليا جيشا للطائفة العلوية، وحيث بات في استطاعة ضابط صغير من أبناء هذه الطائفة الموالين له أن يتحكم في فرقة عسكرية كاملة، على رأسها قائد سني يحمل كتفاه وصدره أعلى الرتب وأهم الأوسمة العسكرية.

إن هذا واقع الحال، ولذلك وعندما تفجرت الأوضاع في سوريا بعد الحادثة المعروفة في مارس (آذار) عام 2011، وتمادى نظام بشار الأسد في ارتكاب كل هذه المجازر البشعة ضد الشعب السوري، فإن أقصى ما كان بإمكان الضباط الوطنيين من سنة وعلويين فعله هو الانشقاق فرديا، فالجيش السوري كان مسيطرا عليه ولا يزال سيطرة طائفية كاملة وكذلك الأجهزة الأمنية، ولذلك فإنه كان من المستحيل القيام بانقلاب عسكري في بلد الانقلابات العسكرية، وخاصة أن هذا النظام، بدعم من روسيا وإيران ومن نوري المالكي والتشكيلات الطائفية العراقية، بقي متماسكا بصورة عامة.

والآن، إذ يعود الغرب، ومعه الولايات المتحدة، بعد سبات عميق طويل، إلى الحديث عن أن هناك إمكانية لتشجيع كبار الجنرالات في الجيش السوري وكبار الشخصيات «البارزة» في الأجهزة الأمنية السورية على الإطاحة ببشار الأسد، فإنهم يبدون بدعواتهم هذه كمن «يغمس خارج الصحن».. اللهم إلا إذا بادروا وبسرعة إلى تقديم دعم فعلي للجيش السوري الحر يحدث تغييرا حقيقيا في المعادلة الحالية بين النظام والمعارضة، ويجعل هؤلاء الجنرالات، ليس يشعرون وفقط، بل يتأكدون من أن هذا النظام زائل لا محالة، وأن عليهم أو على بعضهم أن يغتنموا فرصة سانحة قبل أن يغتنمها غيرهم ويبادروا إلى القيام بانقلاب إنقاذي استجابة للدعوات والتطلعات الغربية وأيضا العربية وقبل كل هذا لتطلعات الأكثرية السورية.